بسجنها المخيف المتداعي، يسود الصمت في جزيرة سانتو ستيفانو، وهي جزيرة بركانية صغيرة تقع بين روما ونابولي، ولكن ليس لفترة طويلة.
وكانت هذة الجزيرة المهجورة التي تسكنها طيور النورس، في يوم من الأيام، بمثابة النسخة الإيطالية من جزيرة ألكتراز الأمريكية.
ولقرون، أُرسل المجرمين وقطاع الطرق والفوضويين والمعارضين إلى هذا المكان للنفي. ومن الإمبراطور الروماني أوغسطس، الذي نفى ابنته إلى جزيرة فينتوتين المجاورة، وصولاً إلى النظام الفاشي، الذي قام بترحيل أولئك الذين اعتبروهم أعداء للدولة، استخدم الحكام عبر التاريخ سانتو ستيفانو كأحد أكثر الأماكن كآبة لإرسال أولئك ممن اعتبروهم من المجرمين.
وفي عام 1965، أُغلق السجن وهُجرت الجزيرة. والآن يتم إعادة إحياءها بمشروع طموح لإعادة التصميم.
وتنفق الدولة الإيطالية 70 مليون يورو، أي 86 مليون دولار، لبث حياة جديدة في سانتو ستيفانو، وتحويلها إلى متحف في الهواء الطلق ونقطة جذب سياحية على سياق جزيرة ألكتراز الأصلية في أمريكا.
وتخضع الجزيرة لأعمال الصيانة لتأمين المناطق الرئيسية، وخلال يونيو/ حزيران الجاري، سيتم إطلاق دعوة لتقديم مقترحات حول كيفية تجديد السجن.
وقالت مفوضة الحكومة المسؤولة عن إعادة التصميم، سيلفيا كوستا، إن الهدف هو استعادة جميع أجزاء المستعمرة، من الثكنات إلى الصهاريج الأصلية “عبر نهج صديق للبيئة يأخذ في الاعتبار تفرد الموطن الطبيعي للجزيرة”.
حاضر جميل يخفي ماضٍ مظلم
وتقع الجزيرة داخل حديقة بحرية محمية. وفي الوقت الحالي، يمكن الوصول إليها من قبل الصيادين، والمغامرين، وغواصين السكوبا والسباحين الذين تغريهم أسماك الهامور العملاقة والباراكودا الودودة التي تسبح في المياه الشفافة. كما أن قاع البحر مليء بالعجائب الأثرية وحطام سفينة يعود لزمن الحرب العالمية الثانية.
ولا تملك الجزيرة رصيف ميناء، لذا فإن نقطة الإرساء الوحيدة للقوارب المغادرة من جزيرة فينتوتين القريبة، على بعد ميل واحد من البحر، هي ميناء روماني قديم مع درجات خشنة منحوتة من الصخور. وعندما يكون البحر هائجاً، لا يستطيع حتى الزورق الاقتراب بأمان.
وفي الوقت الحالي، تأخذ الجولات المصحوبة بمرشدين الأشخاص لزيارة السجن، وهو حصن وردي على شكل حدوة حصان بناه حكام بوربون في القرن الثامن عشر، والذي يتضمن تسلق مدته 40 دقيقة في مسار شديد الانحدار.
وترحب ثلاث لافتات بالزوار المتسلقين، وكُتب عليها: “هذا مكان للمعاناة..هذا مكان للكفّارة..هذا مكان للخلاص”.
وفي الأعلى، تنمو النباتات المورقة وأشجار النخيل فوق زنازين السجن الصدئة، وتتساقط أبوابها من المفصلات، ويتقشر الطلاء من على الجدران. ويوجد هناك سلالم منهارة، بالإضافة إلى ملعب كرة قدم، حيث كان يلعب السجناء ذات مرة.
ووفقاً للخطة الرئيسية لإعادة التصميم، ستستضيف سانتو ستيفانو متحفاً مفتوحاً للوسائط المتعددة حول تاريخ السجن والسجناء، وورش عمل فنية، ومراكز أكاديمية وندوات حول الاتحاد الأوروبي.
وسيبدأ معرض “المشي” الدائم من رصيف المرفأ المستقبلي، ويفتح عبر البرية المليئة بالجدران الحجرية الجافة التي بُنيت على يد السجناء.
وسيتحول المنزل السابق لمدير السجن وغرف تغيير الملابس في ملعب كرة القدم حيث يغتسل النزلاء بعد المباريات إلى نزل منخفضة التكلفة تضم حوالي 30 غرفة.
ومن المتوقع أن يصبح المخبز الذي يصنع فيه السجناء الخبز يومياً مطعماً ومقهى مع حديقة بانورامية حيث يمكن للزوار احتساء مشروب مسائي أثناء الاستمتاع بغروب الشمس.
وفي الأيام الصافية، يمتد المنظر حتى جبل فيزوف وجزيرة إيشيا، على بعد 20 ميلاً. ورغم من أنها مهجورة الآن، ستتم إعادة زرع الزهور والنباتات التي نمت هناك، كما سيتم إحياء بساتين السجناء.
وتقول كوستا: “نريد أن تجتذب الجزيرة الزوار على مدار العام، وليس فقط خلال أشهر الصيف المزدحمة”.
وتضيف: “يجب أن تكون السياحة مستدامة، ولكن سانتو ستيفانو ستكون أكثر من ذلك، ستكون مركزاً للأكاديميين العالميين الذين يتحدون بشأن قضايا رئيسية مثل السياسات الخضراء، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، والمواطنة الأوروبية، والحوار المتوسطي”.
إعادة تصور الماضي
ويُحدد المخطط الرئيسي مفهوم ورؤية إعادة التصميم ليتم تشكيلها من خلال المقترحات الفائزة لكل بقعة على حدة. ومن المتوقع أن ينتهي التجديد بحلول عام 2025.
وتتمثل إحدى الأفكار في تقديم “نزلاء افتراضيين” بأصوات من داخل الزنازين، والتي يمكن أن تكون مضاءة بشكل إبداعي. كما سيتم تجديد الأبراج التي تدور حول السجن والكنيسة المركزية والمقبرة، بينما سيتم عرض الأغراض القديمة الموجودة داخل المباني، مثل الصور، والأثاث، والأسرّة.
وهناك أيضاً احتمال أن تصبح المساحة النصف الدائرية في السجن مساحةً للأداء والفعاليات. ويُطلق على البناء الذي يتخذ شكل حدوة الحصان “البانوبتيكون”، وهو نوع من السجون مصمم للسماح للحراس في المركز برؤية الزنازين من حولهم في كل مكان.
وفي المنتصف كانت الكنيسة ترمز إلى الهيمنة الروحية على النفوس، وتذكير النزلاء بجرائمهم باستمرار والتكفير عن الذنب الذي يجب عليهم فعله.
وتقول كوستا إنهم بدأوا من الصفر، إذ تم إغلاق هذا السجن منذ عقود، وهو في حالة انهيار كامل ولا يوجد به إضاءة ولا مياه جارية، كما أن الوصول إليه يُعد صعباً.
وتضيف: “يركز التجديد على سرد قصة الألم الذي عانى منه هذا السجن، والحفاظ على هذا المكان الرمزي للذاكرة مع التطلع إلى المستقبل”.
تاريخ حزين
إلى جانب جارتها فينتوتين، كانت سانتو ستيفانو بمثابة سجن منذ أيام روما القديمة، عندما كانت مكاناً للحبس، وليس حصناً. وعلى جانب واحد من الجزيرة يُوجد ما يسمى بـ “الحوض”، وهو نوع من الجاكوزي الطبيعي المنحوت من الصخر الداكن، حيث الحراس يأخذون الرومان المساجين.
ومع المنحدرات العالية والنباتات البرية، كان من المستحيل الهروب من سانتو ستيفانو، وكان الغرق مصير القلة الذين حاولوا.
وكفل سجن القرن الثامن عشر سيطرة صارمة ومركزية على جميع الزنازين، وكان السجن مقسماً إلى ثلاثة طوابق كل منها يضم 33 زنزانة.
وتتراوح العقوبات المعتادة بين الجلد والوقوف لساعات تحت أشعة الشمس الحارقة بلا مياه.
ولم يتمكن السجناء حتى من إيجاد العزاء في الطبيعة، وكانت جميع الزنازين بلا نوافذ، وتتطلع نحو الداخل حيث تقف دوريات الحراسة.
وكان الطعام شحيحاً، وكانت وجبات الطعام في الغالب عبارة عن حساء الفاصوليا، بينما يقدم اللحم مرة واحدة في الشهر.
وكانت فترة مظلمة بشكل خاص في تاريخ الجزر خلال الحكم الفاشي، حيث أرسل معارضي النظام بما في ذلك الطلاب إلى جزيرتي فينتوتين وسانتو ستيفانو، مع السماح لأولئك الموجودين في فينتوتين بالتجول في جميع أنحاء الجزيرة، وبينما زُج السجناء “الأكثر خطورة”، والذين غالباً ما يتعرضون للتعذيب، في زنازين سانتو ستيفانو.
وبعد الحرب، عادت الجزيرة إلى كونها سجناً عادياً. وتحسنت الأوضاع مع وصول أوجينيو بيروكاتي في الخمسينيات من القرن الماضي. وقد اتخذ نهجاً أكثر إنسانية، وجعل السجن صالحاً للعيش، وقام بتحويله إلى مكان مكتفي ذاتياً على نطاق صغير.
وقام بيروكاتي ببناء مسرح سينما وملعب كرة قدم، كما أقام دكاكين للحرفيين يديرها السجناء، وأسس بساتين لزراعة الفاكهة والخضار، ومخبزاً لصنع الخُبز والبيتزا الطازجة. وكان السجناء يساعدون في تنظيف السجن، ومنحوا عملة خاصة لشراء الأغراض فيما بينهم.
كما سُمح للسجناء بتجميل زنازينهم بدهانات بألوان الباستيل لجعل إقامتهم أكثر احتمالًا.
ولا يزال بعض السكان المحليين في جزيرة فينتوتين المجاورة يحتفظون بذكريات حية عن السجن، فقد أبحروا للعب ضد فريق كرة القدم الخاص بالسجناء. ولا يزال القليل من الحراس السابقين على قيد الحياة. ويتذكر أصحاب المطاعم على جزيرة فينتوتين كيف كان المجرمون تحت المراقبة يدخلون أحياناً لتناول طعام الغداء برفقة الحراس.