أنهيت للتو مشاهدة فيلم “غدارة يا دنيا”، الذي يتحدث عن حمل المغنية اللبنانية ميريام فارس الأخير وفترة الحجر خلال جائحة كورونا، والتي قضتها برفقة عائلتها. قبل مشاهدته، سمعت كثيرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنها تحدثت عن إجهاضها وعن معاملة والدها القاسية لها، وعن أشياء أخرى كثيرة لم نكن نعرفها سابقا عنها.
بالنسبة لي، “الغدر” الذي ظهر في هذا الفيلم كان من المنصة التي عرضته لجمهورها، وليس من غدر الدنيا لميريام فارس، فمن الواضح أن ما رأيناه لم يكن “غدرا” على الإطلاق.
حديثي عن الفيلم في السطور التالية سيكون من ناحية فنية بحتة، فلست معنية إذا كانت تسوق لنفسها أو لأغنياتها أو حتى لعلاقتها بعائلتها. أولا، حالة التصنع التي ظهرت بها ميريام فارس في الفيلم كانت منافية لطريقتها في الأداء على المسرح، فنحن اعتدنا عليها تطير راقصة على أنغام الموسيقى الصاخبة وتنتقل بين جنبات المسرح بخفة. ولكن ما ظهر في الفيلم هو شابة لا تتحرك منها إلا شفتاها! جمودها كان منفرا ولم يكشف عن دواخل حياتها بشكلها الحقيقي.
بالنسبة لي، ميريام فارس هي الشعر المموج و”الكيرلي”. في شعرها شخصيتها وتميزها. وذلك طبعا لم يظهر أبدا في المقابلة لأنها اختارت الظهور بشعر مملس يجعلها تشبه أي شخص آخر، ويجعلنا نعتقد أن هذا الشخص الجالس على الكرسي أمام الكاميرا ليس هو نفسه من يظهر في المقاطع وهو يغني ويرقص. نقطة كان من المهم أن تؤخذ بعين الاعتبار إن كان فعلا القصد هو أن نتعرف على جانب آخر من المغنية الشابة.
في اللحظات الأولى من الفيلم، بدأت تتحدث عن إجهاضها، وحزنها بعد ذلك. لم يعطَ المشاهد قبل ذلك المشهد أي فرصة ليتعرف على هذه الشخصية الموجودة أمامه، وهو ما يفيد بأن هذا الفيلم صنع خصيصا لكل من هو معجب بها، وليس لمن يرغب في استكشاف تفاصيل حياتها.
على الناحية الأخرى، ما الذي يجعل قصتها بالصورة التي ظهرت بها مختلفة عن أي قصة أخرى؟ سيدة حامل أجهضت، وحاولت مرة أخرى، وأنجبت في ظل جائحة كورونا، وتغيرت حياتها رأسا على عقب، وبعد فترة من الوقت، عادت الأمور إلى مجاريها. قصة تكررت خلال العام الماضي ليس في الدول العربية فقط، وإنما في كل أرجاء العالم. للأسف، هي تستطيع أن تروي قصتها، هناك مئات الآلاف من السيدات ممن يبحثن عن نصف هذه الفرصة للظهور وسرد قصصهن.
شعرت خلال الفيلم أنه لم يكن من اللازم أن يتم تخصيص مشهدين تتحدث في أحدهما بشكل سريع جدا عن ثورة 17 تشرين الأول، وفي مشهد آخر وبشكل أسرع عن تفجير بيروت. حتى أن المشهدين في نهاية المطاف استخدما لنقل معاناتها هي وحياتها هي. كان من الأفضل لو لم يظهر هذان المشهدان، الذان أحسست أنهما أضيفا “رفع عتب”.
هناك الكثير من التفاصيل الصغيرة الأخرى المتعلقة بالجانب الفني للفيلم، التي لا أشعر أن هناك حاجة للخوض فيها، لأن لدينا مشكلة أكبر، لا تتمثل في الفيلم نفسه، وإنما في قرار المنصة التي قررت عرض هذا الفيلم. باعتقادي أن خيار هذه المنصة بعرض الفيلم في هذا التوقيت بالتحديد هو قرار خاطئ، إذا ما اطلعنا على كل الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان الآن، من وضع سياسي، وكورونا، وفساد، وكهرباء، ووقود وغيرها.
منصة قدمت مجموعة كبيرة من أجمل الأفلام الوثائقية والروائية من أنحاء مختلفة حول العالم، تقرر أن تعرض فيلما عن ميريام فارس في منطقةٍ المحتوى القادم منها شحيح في أساسه. مئات الأفلام العربية التي أنتجت في السنوات الأخيرة تتمنى أن تجد طريقها إلى هذه المنصات، ولكنها لا تنجح لأسباب عدة، ولكن فيلم كهذا يجد طريقه رغم أنني لا أرى فيه أي معيار يتماشى مع اختيارات المنصة في مواقع أخرى بالعالم.
لبنان الآن مليء بقصص المعاناة، واستلاب الحقوق، والفقر، والبطالة، والبحث عن الهجرة وغيرها، ويأتي هذا الفيلم ليقول لنا إن هناك أشخاصا في هذا البلد يعيشون بهذه الطريقة؟ كنت أتمنى لو تم استغلال هذا الفيلم لتسليط الضوء على معاناة الناس في هذا البلد الجميل. كنت أتمنى أن تكون هناك Twist في النهاية تقول للبنانيين أن هناك أملا، وأن الغد أفضل، وأن هذه القصة قد تصبح في يوم من الأيام قصة فتيات يعشن في لبنان ويحلمن أن يكن مثل ميريام فارس يوما ما. لكن اكتشفنا في النهاية أن هذا الفيلم ما هو إلا عبارة عن تسويق لألبوم ميريام فارس الأخير، وعذرا أن حرقت لكم الأحداث الشيقة!
نحن للأسف الشديد نعيش في منطقة “تستسهل” عرض القصص التي تجذب المشاهدات، إن كانت بسبب الفضول أو الإعجاب. المتوقع دائما أن قصة مثل قصة ميريام فارس ستجتذب المشاهدات بالتأكيد، وبالتالي عرضها سيكون أسهل بكثير من عرض قصص أخرى عن أشخاص يعيشون في الظل.
نحن كبرنا واعتدنا على أن نرى الصورة والكاميرا تسلط الضوء على المآسي، وعلى قصص الناس، محاولة إيجاد حلول لمشاكلهم، ولكن يبدو أن الركض وراء الأرقام والزيارات وال “كليكس” أفقدنا هذا الشغف، فأصبحت ميريام فارس بأناقتها، ومشاكلها البسيطة، وكل أوجه الرفاهية التي تعيش بها تتسلل إلى بيوتنا، لربما لتنسي البعض منا الواقع الأليم الذي نحن فيه.