هذه الزيارة التاسعة والثلاثون لعبد الله الثاني إلى أمريكا كملك. سبقتها زيارات على يمين ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال -وقد بلغت ثلاثا وثلاثين- زيارة تحدث عن انطباعها العام والراسخ الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة جوزيف آر بايدن في معرض ترحيبه في البيت الأبيض بالملك عبد الله الثاني ابن الحسين وولي عهده الحسين. الصحافة الأمريكية التي وصفت الزيارة بأنها “زيارة انتصار للملك” و “أفضلية بين زعماء الشرق الأوسط” لا مجرد كونها أول لقاء بين بايدن ورئيس عربي أو شرق أوسطي. معلوم أن رئيسي وزراء العراق وإسرائيل سيحلان تباعا ضيفين على بايدن قريبا.
رغم شروط التباعد، وفي خضم القلق من دلتا، أحد تحورات “كوفيد 19″، طغت لغة الجسد -(يد بايدن على كتف ولي العهد ويد نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب المبسوطة على ظهر الملك، بعد محادثات ضمت قيادتي النواب من الحزبين الديموقراطي والجمهوري- طغت على أي تشويش حاول التأثير على الصورة الكبرى للقاءات المكثفة التي أجراها عبد الله الثاني والوفد المرافق مع أركان إدارة بايدن والكونغرس وشخصيات مدنية وعسكرية، أهلية ورسمية ذات تماس بمصالح الأردن وصداقته الممتدة لزهاء ثلاثة أرباع قرن. أشير بإيجاز هنا إلى لقاءات الملك مع سمانثا باورز رئيسة “يو إس إيد” وكالة التنمية (الإنماء) الأمريكية، الجنرال (أربعة نجوم) كنيث ماكينزي قائد المنطقة الأمريكية الوسطى (التي باتت تضم إسرائيل بدلا من منطقة القيادة الأمريكية في أوروبا) إضافة إلى لقاءين كرس أحدهما لدعم سياحة المغطس والمواقع الدينية المسيحية في الأردن (رئيس أساقفة واشنطن الكاردينال ويلتون غريغوري) والآخر لتعزيز قدرات البلاد في مواجهة كورونا (رئيس مجلس إدارة والرئيس التنفيذي لشركة فايزر ألبرت بورلا). هذا التعزيز جاء على شكل هدية مقدمة من الرئيس بايدن إلى الأردن وقد زادت على الخمسمئة ألف لقاح فايزر.
أحد المغردين الأردنيين من ذوي الدراية بالشأن الداخلي الأمريكي استوقفته علامات الحميمية على قسمات وجهي زعيمي الغالبية الديموقراطية تشاك تشومر والأقلية الجمهورية ميتش ماكونيل على يمين الملك ويساره. صورة عززتها تصريحات في مجلس النواب من صقور الصقور في الحزبين، زعيم الأقلية الجمهورية كيفين ماكارثي، ورئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف. الإجماع على الترحيب بالملك وولي عهده والملكة رانيا ودعم الأردن ودور المملكة الإقليمي كان غير مسبوق حتى أمريكيا بعد تطاحن حزبين وإدارتين في انقسام لم تسلم منه حتى ثوابت السياسة الخارجية كما تراها الدولة العميقة وليس فقط قيادات الحزبين التاريخية وبعضها دخل عالم السياسة يافعا (كالسيناتور حينئذ بايدن) مع أول زيارة قام بها الحسين لأمريكا عام ١٩٥٩. بايدن استعاد المشهد ليس فقط بمقارنة الأمير الشاب بأبيه وجده الراحل وإنما بالإشادة بما سمعه من ولي العهد من قضايا تخص الشباب الأردني الطامح والجدير بمستقبل واعد. كان مؤثرا اقتباس بايدن الإيرلندي الأصل من الشاعر الإيرلندي ييتس في حديث ذي مغزى “وقد تغير كل شيء” إيذانا ب “بدايات جديدة”.
هذه البدايات قطعا ستتجاوز ما هو قائم منذ ثلاث سنوات حيث وقع البلدان مذكرة تفاهم لدعم الأردن بستة مليارات وثلاثمئة وخمسة وثلاثين مليون دولار على مدى خمس سنوات. أميركا تتربع على عرش أكبر مانحي وممولي الأردن بما بلغ العام الماضي وحده مليارا ونصف المليار دولار إضافة إلى مليار وسبعمئة مليون دولار دعما لاستضافة الأردن ورعايته للاجئين السوريين ونسبتهم الآن وفقا لإحصاءات وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) ثلاثة عشر وثلاثة بالعشرة بالمئة من سكان الأردن أكثر من ضعف اللاجئين الفلسطينيين بالمملكة. من هنا تأتي أهمية الحديث الملكي من واشنطن تحديدا عن عودة سوريا العربية، إشارة تأتي ضمن حديث شمل أيضا إعادة تأهيل المنطقة برمتها من تداعيات الدمار الذي خلفته الحروب وآفة الإرهاب والكوارث الناجمة عن اختلال معادلة الموارد البشرية والطبيعية والمادية وبخاصة التشوهات السكانية المتمثلة بموجات اللجوء والنزوح وتفشي البطالة سيما في صفوف الشباب ناهيك عن تضييع سنوات بأكملها من الدراسة الصفية سواء جراء التطرف العنيف (الإرهاب) والطاعون الصيني.
لعل من أكثر الكلمات الدالة في تصريحات الجانبين الأمريكي والأردني كان الحديث عن “شراكة” تعيد بناء المنطقة عبر مفهومي الاندماج والتكامل. وهما مفهومان عبرا عن نفسهما عسكريا وأمنيا عبر سنوات من الصداقة والتحالف والشراكة، وقد آن أوان تحقيقهما إقليميا في قطاعات إعادة الإعمار وأهمها الحاجات المعيشية الحيوية والبنى التحتية. هي إعادة تشكل لعلاقات أمريكا مع العالم والمنطقة تتضمن في ظل التعددية القطبية الاعتماد على الشروط الموضوعية لتحقيق سلام وتنمية مستدامة، عوضا عن الحاجة إلى نزع فتيل الأزمات، ترحيلها أو إعادة إنتاجها.
لذلك هي قمة مفتاحية وزيارة مفصلية، سيكون فيها للأردن وأصدقاء مشتركين دورا متقدما في شرق أوسط آمن وواعد لا مكان فيه لأصحاب الرؤوس الساخنة أو الخاوية ولا للأصوات المشاغبة ولو كانت صاخبة. البقاء سيكون للأكثر صدقا مع نفسه ومع الآخر. وهي دعوة مفتوحة إلى مراجعة حقيقية مع الذات أولا لا تقتصر على الملوك والرؤساء..