ومنهاج الجماعات الجهادية الإسلامية قاطبة يرى (أن أعظم وأرقى ميدان للتربية الإسلامية الصحيحة، وتزكية النفوس، والإخلاص فى العمل، وحسن العبادة، وصدق الالتزام، هو فى ميدان القتال والجهاد، لأن الشدائد فى ميدان القتال قادرة على صلب النفوس وامتحانها، والتحلى بالصبر والجلد درجة من درجات الإيمان بقضاء الله وقدره، والتوكل على الله وطلب المدد يرسخ نعمة القرب والود والاعتماد على الله)، وفى هذا الشأن يقول سيد قطب فى كتابه «فى ظلال القرآن»: (إن هذا القرآن لا يكشف أسراره إلا الذين يخوضون به المعارك، والذين يعيشون فى الجو الذى تنزل فيه أول مرة) وهكذا كانت تربية الأوائل، ويستشهدون بغزوة الأحزاب، وحصار المسلمين، وما واجهوه من محن وحصار وخوف وجوع، وقد كان المؤمنون فى هذه المحنة أقرب ما يكون العبد إلى ربه، وكأن للصبر على البلاء والشدائد درجة أعلى للارتقاء إلى الله، واللجوء إليه قد ضاعف كتلة الإيمان، وما كان يصل الإيمان فى النفوس والقلوب إلا بشدة ومحنة تثقله وترسخه فى النفوس كما كانت هذه المحنة، وأسمع ما يقوله فى هذا الشأن شيخ الإسلام بن تيمية (من كان كثير الذنوب فدواؤه الجهاد)، وهذا ما دفع هذه الجماعات إلى البحث عن ميادين للجهاد هنا وهناك، وفتح أبواب الخلاف والشقاق بين الأديان والعقائد والملل الأخرى، وجر كل هؤلاء إلى حروب وقتال تحت عناوين شتى، منها على سبيل المثال، محاربة الشرك والمشركين، ومحاربة الكفر والكافرين مادام الكفر قائما، وقتال الأمة الممتنعة عن شريعة من شرائع الله الظاهرة والمتواترة، والخروج على الحاكم الذى لا يطبق حدود الله، أو قتال تاركى الصلاة والزكاة، وأصبح هم وشاغل هذه الجماعات أن تفتح أبواب القتال وميادين الجهاد فى أى مكان، سواء كان على الحق أو على الباطل، وهم فى هذا مؤمنون بعقيدة ثابتة راسخة، ويدعون إليها ولا تخفى عليهم جميعا (أن يجعلوا من لم يقاتل اختيارا من الجماعات الإسلامية يقاتل اضطرارا، حتى يرتقى الإيمان فى النفوس والقلوب)، وهو أمر مزعج أن يعيش المسلم على حافة الحروب والخراب والدمار، هذا منهج هؤلاء المرضى المتسلقين.
وفى هذا نتساءل دوما، ما هذا السر الذى يدفع هؤلاء إلى ترك المال والولد والوطن والأهل والأحباب إلى ميادين القتال فى أرض الله الواسعة، بلاد ليس لهم فيها أصل أو جذور، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، وليس لهم فيها مظلمة ينتصرون لها، ولا مظلوم ينصرونه، ولا قضية تشغل بالهم يدافعون عنها، وقد كان هذا الجهاد وإن صح أولى به أصحاب هذه البلاد أنفسهم، إذا اطمأنوا إلى سبيله، وكان منهجا لثورتهم، وعزموا عليه؟ وما سر هذه الغربة وهذا البعاد وهذه الوحشة والهجرة إلى بلاد موحشة ومعارك قاتلة وشراسة وإثخان فى القتال، ومصير مظلم فى البعاد وموت فى الغربة والضياع، إلا إذا دفعهم هؤلاء المحرضون دفعا إلى هذه الميادين التى صنعوها، تحت عناوين صلابة أصحاب العقيدة بالبلاء والامتحان، وتربية الإخلاص فى ميادين القتال، وتمحيص القلوب تحت شمس الجهاد، وانتظار فرح الله وفضله وكرمه تحت أسنة الرماح، وأن المحن والبلايا وفقد الأهل والولد وضياعهم هو التربية المثلى لأفذاذ الرجال القادرين على حمل الأمانة، وكأنك تقتل الآلاف لتختبر منهم واحدا، أو تختار منهم رجلا واحدا صالحا، أو تحرق قرية بأكملها حتى لا ينجو منها إلا ما تختاره قادرا على قيادتها بعد أن تصبح خرابة بفضل هؤلاء.
وحقيقة الأمر أن ميادين القتال ليست لتهذيب القلوب، وليست لتزكية النفوس، وليست للتربية الدينية أو بناء العقيدة الصحيحة، لكنها لتدريب الوحوش الكاسرة المتوحشة، وتربية القلوب الفظة الغليظة، وترويض النفوس الجامدة الميتة المتحجرة، خصوصا إذا كان قتال وجهاد المؤمن هذا على غير الحق، وهو المعتدى والجائر والظالم، وليس المدافع والمظلوم، وتحت عنوان جهاد الطلب، إلا أن الحقيقة الدامغة أن ميادين العمل والبناء والتشييد والتعمير هى ميادين السلام والأمن والإخلاص والوفاء والمحبة والإيثار والتعاون والرضا والأمان، هذه الميادين هى ميادين الاستقرار والحرية وتثبيت الإيمان فى القلوب والعقول والنفوس، وكلما زاد البناء والعلم ارتقت النفوس ورضيت ورأت الله فى كل بناء وفى كل إبداع، وهل يرى الإنسان الله فى الخراب أم فى البناء؟ فى البوار أم فى الزراعة؟ فى العلم أو فى الجهل؟ فى القتل أو فى الحياة؟. هلا سمعت يوما عن نبتة مثمرة قطوفها دانية يانعة كانت تربيتها صالحة فى البرك والمستنقعات؟ وهل رأيت الله فى بلاد الجهاد فى أفغانستان والعراق وسوريا، أم رأيت شياطين الإنس يمرحون بين خراب الديار وأشلاء القتلى؟ هل هذه ميادين الجهاد الحق؟ الميدان الحقيقى المثمر والذى ترى فيه نعمة الله وخيره هو ميدان العلم والعمل والبناء والتعمير، والسلام والمحبة مع كل خلق الله دون تمييز أو استعلاء، مع الخير يرى الإنسان الله العلى العظيم، أما ميادين القتال دون حق فلا يرى الإنسان فيها إلا وجوه الشياطين. سلم العالم من هذا الوباء وهذا الجهاد.