لن أخوض في الدلالة التاريخية (دينيا وسياسيا) لآيا صوفيا ولا حتى لكونها درة القسطنطينية التي احتلها السلطان العثماني محمد “الفاتح” وحولها إلى إسطنبول. لكن باعتراف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، السلطان (الكاسح) وسأوضح هذه التسمية في خاتمة المقالة، في خطاب “النصر” الذي تلاه من داخل أيا صوفيا أن أسلافه هددوا بنسف آيا صوفيا في حال انتزاعها من أيديهم، الأمر الذي أجبر “المحتل” على الانسحاب.
لكن العجب في شخصية إردوغان ومن كتب له الخطاب وكأنه مرافعة قانونية سياسية تاريخية دينية لتبرير ما يعلم في قرارة نفسه أنه “لعب بالنار”، هو إشارة من حسبته خليفة المسلمين لا سلطانهم فحسب، من هول ما ورد في التعليقات الواردة أثناء بث إحدى الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية للخطاب مترجما عبر البث نقلا عن الفضائية التركية، إشارته إلى الخليفة عمر بن الخطاب وعهدته العمرية في القدس.
لقد أكرمني الله بزيارة القدس مرات قليلة، شرفت فيها بزيارة سياحية تاريخية شملت المقدسات كلها، بما فيها كنيسة القيامة، وعند سؤالي عن حالها فيما يخص بناء جدار قديم على أحد مدخليها للتضييق على الحجاج، وتقاسم الطوائف لشرف الخدمة والملكية داخل الكنيسة بما فيه القبر المقدس، أدركت جانبا أخفاه عنا معلمونا في المدارس والجامعات – سامحهم الله.. لمست بيدي جوانب مخفية من الظلم التاريخي الذي صلب هذه المدينة المقدسة مرارا وتكرارا ومن ضمنها الحكم العثماني المستبد. لكن الخطورة وفي غمرة الحديث عن صفقة القرن وقرار تمديد السيادة الإسرائيلية على مناطق من الضفة الغربية أو ما يعرف بالضم، والترتيبات الخاصة بملكية ورعاية وخدمة الأماكن المقدسة. هذه الأماكن ليست فقط في الجوار الأفقي ولا حتى الفضائي وإنما جوار الالتصاق لما هو تحت الأرض.
نعلم إن أنصفنا قراءة التاريخ، أن الغزاة العتاة في سائر أرجاء المعمورة، أحيانا يمحون دور العبادة عن وجه الأرض ويطمسون معالمها حتى تضيع في غياهب التاريخ، وأحيانا أخرى يقومون باختطاف تلك الدور وتحويل وجهة صلاتها فيصير المذبح محرابا أو العكس، لكن الأكثر خطورة هو ليس فقط الدوس على الألغام وإنما اكتساحها.
في نظري هذا ما قام به إردوغان السلطان الكاسح.. قام بآيا صوفيا بالدوس على مشاعر الملايين واستفزاز قادة العالم وتجاهل تحذيراتهم. ومن الناحية التقنية كسح الألغام إن لم يتم بعناية – لا قدر الله – نهايته البتر أو الموت إربا. أما إن كان مدروسا ومعدا له بعناية، فإن إزالة اللغم قد يكشف عن مرحلة إعادة إعمار، وهو في هذه الحالة تغيير ما يعرف دينيا وخاصة بالقدس بـ”الوضع القائم” أو الستاتيسكو.
كيف تتبين لنا نوايا إردوغان؟ إن أقر لمسيحيي العالم على الأقل الأتراك والسريان والأرمن والكرد بإقامة قداديس الأحد اعتبارا من الأحد الذي يلي جمعة الرابع والعشرين من تموز، فإنه كاسح ألغام ضمن مشروع إعادة النظر في الوضع القائم لكل بقعة مقدسة أو دار عبادة في العالم، وإن لم يفعل فقد انتهى سياسيا وأرّخ لمرحلة خطيرة في المناطق التي تم شحنها عبر السنوات الماضية لصولة جديدة من أبشع الحروب وأبعدها عن الحكمة والقداسة.. ما جرى بحق أيا صوفيا مصاب جلل لكن رب السلام قادر على صنع الخير دائما.. طوبى لصانعي السلام..