تستعيد القطارات الليلية مجدها من جديد في جميع أنحاء أوروبا، وذلك بعد عقود من خفوت نجمها، ما يزيد من احتمال إيجاد وسائل أكثر استدامة لعبور القارة، لا سيّما أنّ المسافرين يبحثون عن بدائل للطيران.
لا يوجد ما يضاهي القطار الليلي. من الإثارة قبل انطلاق الرحلة المسائية، وحس المغامرة، إلى تنوع جنسيات المسافرين الدوليين.
ثم هناك الرحلة نفسها. فالخلود للنوم أثناء خروجك من مدينة كبيرة والاستيقاظ في مدينة أخرى، أو حتى في بلد جديد، يمكن أن يحفر في وجدانك ذكريات تدوم مدى الحياة.
فهل هذا سبب موجة الترويج الجديدة التي نشهدها للقطارات الليلية، باعتبارها وسيلة بديلة للرحلات الجوية القصيرة أو حتى متوسطة المدى، عبر أوروبا والولايات المتحدة.
في أفضل حالاتها، قيمة البطاقة جيدة لأنها تجمع بين تكلفة السرير لليلة ومئات الأميال من السفر، لكن الأسعار ترتفع بسرعة على المسارات المزدحمة، ما يجعلها في كثير من الأحيان بعيدة عن متناول معظم المسافرين.
أينما كانت وجهتها، فالقطارات الليلية معقدة، وكثيفة العمالة، وكلفتها التشغيلية مرتفعة، وهذه بعض من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى خفوتها في المقام الأول. كما يتم قياس التأخير في كثير من الأحيان بالساعات عوض الدقائق، وذلك جراء الانتقال من الليل إلى النهار. أما نوعية أماكن الإقامة فهي متفاوتة، وتتراوح بين الحديثة والمريحة، وتلك الأساسية والقديمة.
من جهة أخرى، سرعان ما يتلاشى رونق الحداثة إذا عجّت العربة بالمراهقين مفرطي النشاط، أو أقيمت فيها حفلات توديع العزوبية. فلا أحد يحب الوصول إلى مدينة جديدة عند السابعة صباحًا وهو يشعر كأنه نام على مقعد في الحديقة.
حتى قبل عصر نهضة القطارات كانت الرحلات المسائية وسيلة ممتعة لا تُنسى، وفي بعض الأحيان اقتصادية لتغطية مسافات طويلة.
العودة إلى السكة
إن النهضة التي تشهدها القطارات أخيرًا، لا سيّما في البر الرئيسي لأوروبا، تدين للمخاوف البيئية المتزايدة وللروائية أغاثا كريستي أو أفلام جيمس بوند.
فمنذ انتشار ظاهرة flygskam (عار الطيران) بسرعة من الدول الاسكندنافية، سعى المسافرون المهتمون بالمناخ للبحث عن بدائل للسفر الجوي لمسافات قصيرة.
وحيثما توجد خطوط سكك حديدية جيدة، شهد السفر لمسافات طويلة بين المدن الكبرى مجددًا بعد جائحة “كوفيد- 19” ازدهارًا. وللرحلات الطويلة، يمكن للقطارات الليلية أن تقدم بديلا مقنعًا للتجربة غير السارة للرحلات الجوية في الصباح الباكر.
وبقيادة شبكة “Nightjet” التابعة للسكك الحديدية الفيدرالية النمساوية، تمت استعادة وتوسيع الروابط الليلية بين المدن الأوروبية الكبرى في السنوات القليلة الماضية، ما أدى إلى عكس عقود من الخدمات المتضائلة.
وسوف يتلقون دفعة أخرى في ديسمبر/ كانون الثاني، عندما تدخل القطارات الجديدة الفاخرة الخدمة بين فيينا وهامبورغ. إذ تتميز القطارات الجديدة بكبائن نوم مريحة، و”حجرات” سرية للمسافرين المنفردين بدلاً من العربات المشتركة التقليدية، إلى كبائن يمكن الوصول إليها بالكامل.
وربما تكون القطارات الجديدة البالغ عددها 33 قطارًا، هي العلامة الأكثر وضوحًا على عودة رحلات السكك الحديدية الليلية.
أبدى مارك سميث، خبير السفر بالسكك الحديدية الذي يدير موقع The Man in Seat 61، إعجابه بهذه التطورات الجديدة، بالقول: “القطارات الجديدة راقية للغاية”.
وتابع أنّ “الكبائن الصغيرة التي اعتمدتها شركة ÖBB، عبارة عن فندق كبسولة على الطراز الياباني على القضبان، أهم ابتكار، وأعتقد أنها ستحقق نجاحًا كبيرًا بين المسافرين الشباب المهتمين بالمناخ”.
من خلال العمل مع السكك الحديدية الفيدرالية السويسرية وشركة دويتشه بان الألمانية، أعادت شركة ÖBB تنشيط الطرق الليلية التي تربط المحاور الرئيسية في فيينا، وزيورخ، بمدن في ألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، والمجر، وبولندا، وجمهورية التشيك، وفي الآونة الأخيرة مع باريس، وبروكسل، وأمستردام.
وقد شجّع نجاحها دولا أخرى، أبرزها فرنسا وإيطاليا والسويد، على إعادة النظر في الرحلات الليلية، وإحياء الطرق المهجورة، وحتى اقتراح عربات جديدة لتحسين عروضها.
التزمت شركة السكك الحديدية الإيطالية (ترينيتاليا) بشراء 70 عربة جديدة للقطارات المسائية، تتميز بكبائن عالية الجودة مع مرحاض داخلي ودش، وبعضها مزود بأسرّة مزدوجة.
وتتوزع المركبات الأولى على خطوط المسافات الطويلة بين ميلانو وصقلية، التي تعبر مضيق ميسينا على آخر عبارة قطار ركاب متبقية في أوروبا. وقد يشهد العقد الذي تبلغ قيمته 770 مليون دولار تقديم نحو 370 عربة ليلية جديدة، بهدف تحديث أسطول القطارات الليلية بالكامل في إيطاليا.
وفي الولايات المتحدة، بدأت شركة الركاب الوطنية “أمتراك” عملية استبدال أكثر من 800 سيارة “Superliner” و”Amfleet” المخضرمة على 14 طريقًا ليليًا، ضمنًا California Zephyr وCoast Starlight المشهورتين عالميًا.
مسار محفوف بالمصاعب
هذا الواقع ألهم العديد من الشركات الناشئة الخاصة لدخول السوق في أوروبا، فوعدت بمسارات جديدة وأسعار أرخص، أو أماكن إقامة أكثر فخامة، تجذب قطاعات مختلفة من سوق السفر.
وحتى الآن، لم ينجح سوى عدد قليل من القطارات بالوصول إلى السكك الحديدية، حيث يربط خط سنالتاغيت السويدي الآن ستوكهولم بالدنمارك وألمانيا، في حين تدير شركة السفر التشيكية ريجيوغيت عدداً قليلاً من المسارات الليلية، ضمنًا القطارات الدولية الموسمية من براغ إلى ساحل البحر الأدرياتيكي في كرواتيا.
أما اللاعب الجديد الطموح فهو شركة European Sleeper، التي افتتحت طريقها بين بروكسل وأمستردام وبرلين في مايو/ أيار 2023، ما يوفر اتصالات مفيدة مع يوروستار للمسافرين من وإلى لندن.
لكنّ الصعوبات التي تواجهها شركة European Sleeper في تأمين القطار المناسب والتوقيت المناسب، تقدم دروسًا واقعية لمشغلي الوصول المفتوح الآخرين، الذين يأملون باستغلال الطلب المتجدد على السفر . ففي حين كان مرتقبًا إطلاقها أساسًا في عام 2022، إلا أنّ ذلك تأخر بسبب النقص الحاد في الحافلات الصالحة للخدمة.
تمكنت ES في النهاية من تجميع مجموعة من الحافلات والعربات التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي وحتى عربات النوم الفخمة من الخمسينيات، كانت مصممة للشركة الأسطورية Compagnie Internationale des Wagon-Lits (CIWL)، المشغل لمرة واحدة لقطار Orient Express الشهير.
ويكفي قطار واحد يعمل لثلاث مرات في الأسبوع في أيام متناوبة بكل اتجاه. وتأمل الشركة في زيادة الاستخدام اليومي لها عندما يتوفر المزيد من القطارات.
وتحاول شركة Midnight Trains الفرنسية الواعدة أيضًا اقتحام المشهد، إذ وعدت بتقديم تجربة “فندق على عجلات” فاخرة بين باريس وبرشلونة اعتبارًا من عام 2025. وتخطط على المدى الطويل خدمة 10 وجهات تنطلق من باريس. وسيكون تحقيق بعضها أسهل رغم أنه لا يمكن اعتبار أي منها مباشرًا.
وفي حين أن الطرق المؤدية إلى ميلانو/البندقية، وفلورنسا/روما، وهامبورغ، وبرلين، وكوبنهاغن تبدو قابلة للتحقيق إذا أمكن الحصول على مخزون كاف من العربات، فإن خطّ باريس إلى مدريد وبورتو، سوف يتطلب مركبات ذات قدرة على تغيير المقياس للعمل على مقاييس السكك الحديدية في إسبانيا والبرتغال التي هي أوسع من المسارات الأوروبية القياسية.
والرحلة الليلية الأطول تمثلت بالاقتراح المثير للدهشة الذي قدمه قطار منتصف الليل لطريق باريس-إدنبرة، الذي يتطلب إنشاء قطارات جديدة لتناسب الأنفاق والجسور والمنصات البريطانية الأصغر حجمًا، وتلبية القوانين الصارمة لمكافحة الحرائق في نفق القناة.