وأول ما اشتهرت عمليات التبرع بالقرنية وزراعتها في العالمين العربي والإسلامي كانت في الأردن، بعد تبني المراجع الدينية ووجهاء البلد بمعنى مشايخها (مسلمين ومسيحيين) وشيوخها جهودا ملكية رعاها الأمير رعد بن زيد، أحد الناجين من مجزرة قصر الرحاب ببغداد في انقلاب تموز الإجرامي عام ١٩٥٨.
غريبة على المجتمع الأردني الجرائم الكبرى عموما، فقد كانت حتى أواخر الثمانينيات نادرة، ولم تشهد ما يعرف بالجرائم المروعة حتى أواسط العقد الأخير من القرن الماضي، حتى شهدت بدايات القرن الحالي جرائم يشيب لها الولدان.
تعددت الأسباب والجريمة واحدة. أي فعل شرير يوقع الأذى هو جريمة ومن قبل خطيئة. لهذا توافقت الأديان على اعتبار مجرد النظرة زنا، والكلمة وحتى الإيماءة، خدشا للحياء. حتى كشفت الفضائيات ومن بعدها منصات التواصل الاجتماعي، ما حرص رجال الأمن على إخفائه من قبيل الستر والرأفة حتى لا يتفشى ما يهز الأمن والأمان المجتمعي. الطامة الكبرى أن الروايات غير الرسمية والتي تفتقر لقواعد الإخبار الصحفي تخضع لكثير من المبالغات وأحيانا للتوظيف لغايات لا علاقة لها بالجريمة. ليس سرا أن هناك من يقترف جرائم بحق العدالة نفسها، عندما يتعجل نتائج التحقيق فيلعب دور المحقق والقاضي والمشرع والواعظ والمفتي في آن واحد.
ما ظننت القراء الكرام، ينتظرون تفاصيل ما جرى لفتى الزرقاء قرب العاصمة الأردنية عمّان، والمدينة الأيقونية في تنوعها العرقي والديني والطبقي، لكن لمن لا يعلم، فالجريمة ثأرية مفرطة في التوحش. وتلك مسألة شهدت مؤخرا تكرارا مقلقا، كونها متعددة الأسباب شملت “جرائم الشرف” والخلافات الزوجية والأسرية. التعدد شمل أيضا محاولات تفسير ما جرى من قلع عيون وبتر أعضاء والقتل ذبحا أو طعنا أو برصاص. البعض عزاه إلى سموم المخدرات والبعض الآخر إلى سموم من نوع آخر أكثر فتكا.
إن التشخيص العميق والقراءة الأمينة للأحداث تفيد بجملة من الحقائق: التوحش ظاهرة عالمية. يعلم الله ما شهدته – كصحفي – من جرائم مروعة في بريطانيا وأمريكا. التوحش إرهاب لم يبدأ بداعش ولا يقتصر على التنظيمات الإرهابية. فكل تنظيم عصابي جماعة إرهابية، لا بل وهي أكثر خطورة كونها بين الناس تقوم بأعمال الزعرنة والفتونة والبلطجة والخاوات والإتاوات قبل أن تصل إلى مستويات العصابات الخطرة والتنظيمات العصابية الإجرامية. هناك منحنى بياني ما، لم يتم القيام بما يلزم لتسطيحه وشطبه كليا (تماما على غرار محاربتنا عالميا لجائحة كورونا!)
حسن تشخيص المرض هو أول مراحل العلاج والتعافي لا بل والمنعة (المناعة) من تكرار تلك الجرائم. أصل أي جريمة عنف، هو أفكار وعواطف. فكرة الثأر وعاطفة الغضب جذرها واحد هو الشر وأصل الشرور كلها الكراهية. المجرم كاره لنفسه قبل أن يكره الآخر. وفعل العنف أو الإكراه هو فعل مدان سواء صدر عن مجرم أو أي طرف آخر حتى لو ادعى سعيه لتحقيق العدالة.
كان صادما ردود الأفعال الصادرة عن قادة مجتمع ورأي عام عندما تحدثوا بمنطق الثأر والعنف أيضا تماما كمنطق المجرم. صحيح أن العقوبة الرادعة مطلوبة وتلك مسؤولية القضاء وحده لا سواه، لكن من غير المعقول أن يتساوى رأي عامة الناس مع آراء قادة الرأي.
المساءلة يجب أن تشمل الجميع وفي مقدمتهم من يتوسط لهؤلاء المجرمين طمعا في دعم انتخابي أو وجاهة اجتماعية، لكن هذه المساءلة القانونية لا ينبغي أن تنسينا الحاجة الملحة للتفكير في جذور الانحراف والتوحش. قبل أيام احتفلنا باليوم العالمي للصحة النفسية والعقلية فماذا نحن فاعلون؟ وهل يصح جسد ونفس دون أن تصلح الروح؟ معركتنا يا أحبة في الأصل روحية. من خداع الذات وظلمها لنفسها، أن نظن أن المشكلة في التوحش، فالوحوش لا تفعل ما فعله الجناة في فتى الزرقاء. وحده الشيطان الذي يهوي بالإنسان إلى ما هو أدنى من الوحوش وأكثر منها فتكا.
هنا في الولايات المتحدة، يضع أتباع ديانات كثيرة أيديهم بأيدي بعضهم بعضا فيما ينفع الناس، يعملون معا على ما تتفق عليه الأديان كافة، وفي مقدمتها زرع المحبة والتسامح بين الناس، ووقايتهم وعلاجهم من الإدمان وحماية الأسرة من التفكك والتصدي لمشاعر الحرمان والكبت والغضب والانفعالية لدى الشيب والشباب.
قد أرعد وأزبد كثيرون في قضية العقوبات لكن ألا من داع لنثر الحق والخير والجمال في بلادنا؟ ماذا لو أعدنا تدريس الفنون والموسيقى إلى مدارسنا وكذلك الفلسفة؟ ماذا لو استثمرنا ببناء المراكز الرياضية والاجتماعية والمسابح والمتنزهات العامة؟ ماذا لو خففنا من التلوث الضوضائي الذي زاد من منسوب التوتر والانفعال عند الناس، فإن نجت من الجريمة لا تنجو من حوادث الطرق؟ بإمكاننا جميعا “الثأر” لفتى الزرقاء، فلا نرفع راية سوداء ولا بيضاء، بل نشمّر عن سواعدنا لتضميد جروحه وجراحه. ولا نقف مكتوفي الساعدين اللذين فقدهما بترا، بانتظار ضحية أخرى تفقأ عينه اليسرى واليمنى معا.. هذا العالم لا ينقذه العمي بل المبصرون ذوو البصائر.. يا رب ارحم..