لم تأخذنا كثيرا أو بعيدا الحرب الكلامية بين المتخاصمين، فقد علمتنا شقاوة أولاد الحارة أن الأعلى صوتا هم الأكثر حرصا على تدخل أهل الخير للحيلولة دون الاشتباك وفضّه في أسرع وقت في حال وقوعه.
ولم أحبس أنفاسي مع كثيرين، عندما رسم الرئيس الأمريكي السابق باراك حسين أوباما خطه الأحمر في رمال سوريا قبل سنوات. ورغم الفارق بينهما، لم أخش من انفلات الأمور من عقالها بعد ضربة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقاعدة الشعيرات.
خط ترامب الأحمر معروف منذ بواكير حملته الانتخابية الأولى. هذا الرجل يعني ما يقوله: أمريكا أولا.. ولا شيء يعنيه أكثر من سلامة الأمريكيين وقد حقق نجاحات كبيرة في ملف تحرير الرهائن والإفراج عن المعتقلين ونقل الرفات. تشهد حروبه الكلامية مع قادة كوريا الشمالية وتركيا أنه جاد في السعي لاختراقات أكبر من إذعان أنقرة إبان أزمة الإفراج عن القس الأمريكي أندرو روبنسون. شطب رجب طيب إردوغان خطاباته العنترية بجرة قلم، وقال إن قضاءه (النزيه) هو الذي صدع للحق والعدل وليس خوفا من عقوبات اقتصادية “مدمرة” ولا هلعا من انهيار الليرة التي وصلت هذه الأيام إلى 8 ليرات بالتمام والكمال مقابل الدولار.
عين ترامب ومن حولها عشرات العيون في الخارجية الأميركية والبنتاغون والأجهزة الأمنية المعنية بملف المفقودين والمعتقلين والرهائن، وفي مقدمتها وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي إيه) ترصد الكثير مما يعينها على تقديم التوصيات المناسبة لصناع القرار في البيت الأبيض ودوائر أخرى ذات صلة في واشنطن.
لم تفاجئنا أنباء الاتصالات السرية بين واشنطن ودمشق مباشرة أو عبر بيروت أو أطراف عربية وأوروبية أخرى. أذكر تماما ومنذ ما لا يقل عن نصف قرن، فحوى كثير من الصحف والكتب المتخصصة التي تحدثت عن اتصال وتواصل (وهناك فرق بين المصطلحين) بين أجهزة الأمن والاستخبارات السورية وعدد من نظيراتها الإقليمية والغربية. لم يكن سرا أن “الشركة”، وكالة الاستخبارات المركزية كانت تستثمر في علاقات تكللت بالنجاح وانتهت نهايات سعيدة ضمنت لم شمل مفقودين ورهائن بأسرهم إبان الحرب الأهلية في لبنان وحروب التنظيمات اللبنانية والفلسطينية.
هذا في عز الحرب الباردة وحروب الوكالة بين المعسكرين الشرقي والغربي، أما في عالم القطب الأوحد وما تلاه من إرهاصات تشكل التعددية القطبية، فقد أظهرت الحروب القذرة من إرهاب واتجار بالبشر والمخدرات والسلاح، أظهرت الحاجة إلى إبقاء حبل “الود” متصلا. والودّ هنا من النوع الذي يولع به الناطقون بلغة الضاد، “الخلاف الذي لا يفسد للود قضية”!
من هذا المنطلق لا أفقد الأمل بأنه وبصرف النظر عن الفائز في الانتخابات الأمريكية، لن يتمكن المرشح الديمقراطي في حال وصوله إلى البيت الأبيض جو بايدن، لن يتمكن من التراجع عن المشوار الذي بدأه ترامب، حتى وإن اختلفا على كل شيء وبخاصة الملف السوري. هذه مسألة تتعلق بحرية أمريكيين مفقودين، معتقلين أو رهائن في سوريا. هذا هو الخط الأحمر الحقيقي الذي لا يستطيع مسؤول أو حتى مواطن أمريكي عادي تجاوزه أو تجاهله.
إن مجرد خروج الأمور إلى العلن في خضم السجال الانتخابي، “تسريبات” وول ستريت جورنال ومن بعد “الوطن” السورية، يعني قرارا سياسيا وليس أمنيا بأن الأمور نضجت وانتقلت من مرحلة تبادل الرسائل وإطلاق بالونات الاختبار إلى مرحلة تهيئة الرأي العام في البلدين لاختراق ما، وأظنه كبيرا..
هذا التعليق الحاصل الآن للأمور ما هو الا احترام لأشبه ما يكون بـ “الصمت الانتخابي”. يبدو أن فرصة إتمام صفقة الرهائن أو المفقودين أو المعتقلين، قد تجاوزتها أجندة الانتخابات وما يعرف بـ”مفاجأة أكتوبر”. قد يكون ما قيل عن اشتراط دمشق الانسحاب من شمال شرق سوريا هو السبب المعلن أو العذر المتفق عليه. لكن الاعتبار الحقيقي في نظري هو إتاحة الفرصة لإتمام الصفقات الأكبر والأهم أمام الرئيس المنتخب. تلك مسائل تفرض طبيعتها الديمومة. ترتيبات من نوع خاص على وزن عودة الصحفي الأمريكي ورجل المارينز المتقاعد أوستين تايس إلى أسرته بمناسبة عيد الشكر أو الميلاد المجيد.
يومها فقط، سيحدث الاختراق الذي يفتح الباب واسعا أمام مرحلة جديدة من العلاقات السورية الأمريكية والتي أراها واعدة، سيما إن تحقق وبضغط وإسناد روسي، انسحاب إيراني من سوريا يفتح بدوره الباب أمام ما وعد به ترامب مرارا: صفقة جديدة مع إيران في الشهر الأول من ولايته الرئاسية الثانية. نتفاءل بأمطار تشرين ونقول: أول الغيث قطر..