لماذا اتفاق جديد؟
لأن أي اتفاق الآن بين أمريكا وإيران سيتعلق بما هو أكثر من برنامج الأخيرة النووي، الذي كان محور الاتفاق الذي وصلت اليه إدارة الرئيس أوباما مع ايران منذ خمس سنوات. هذه المرة الاتفاق سيتعلق بترتيبات السياسة والأمن في الخليج وسوريا ولبنان والعراق.
لماذا الولايات المتحدة وايران بالذات؟
الاتفاق المحتمل يُصَور كإطار يجمع الولايات المتحدة وايران وأوروبا وعدد من الدول العربية. وهذا صحيح في الشكل. لكن جوهر الاتفاق المحتمل سيكون بين أمريكا وإيران.
ذلك راجع الى أن أي قرار جاد متعلق بترتيبات الأمن في الخليج لابد له من ضمانة أمريكية. أما فيما يتعلق بشرق البحر الأبيض المتوسط، فبالرغم من أهمية مواقف دول مثل تركيا وروسيا وإسرائيل، إلا أن أي ترتيبات للمستقبل هناك أيضًا تستلزم قبولاً أمريكياً.
من الناحية الأخرى، إيران هي اللاعب الأكثر نجاحًا في الـ15 عامًا الماضية من الناحية الچيو-سياسية في كل منطقة الشرق الأوسط والخليج. إيران ركّزت نفوذاً كبيراً لها، وأحيانا حاسم، في عدد من العواصم العربية. إيران استطاعت أن تحقق من خلال عدد من حلفائها وأدواتها توازن ردع أمام إسرائيل، وقد كان ذلك هدفاً قديماً لنظام الجمهورية الإسلامية هناك. كما أن إيران استطاعت ان توجد لها مركزاً سياسياً وعسكرياً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وذلك هدف قديم للدولة الإيرانية نفسها بغض النظر عن النظام الحاكم فيها.
لماذا احتمالية الاتفاق الآن؟
1- عدد من أهم أركان السياسة الخارجية في إدارة بايدن يرون الوصول الى اتفاق مع إيران ضرورة لترتيب قدر من الاستقرار في الشرق الأوسط والخليج، كما أن نتائج هذا الاتفاق واصلة الى شمال أفريقيا. والمنطقة بأسرها الأكثر اضطرابًا في العالم.
2- ترتيب أمن هذه المنطقة مهم للمواجهة الكبرى التي تدخلها الولايات المتحدة الآن مع الصين. ذلك لأن الخليج أهم مصدر طاقة للصين، كما أنه المنطقة الوحيدة من بحر الصين الى شرق أفريقيا التي ما زالت بلا وجود تجاري أو صناعي صيني كبير قابل أن يتحول بسرعة الى وجود عسكري.
3- إيران لاعب مهم في الجانب المضاد للولايات المتحدة. بالطبع ليست في مصاف الصين أو روسيا. ولكنها ذات قدرات عسكرية وسياسية أثبتت قيمتها في أهم الصراعات التي جرت في الشرق الأوسط في الـ15 عامًا الماضية. ولذلك فإن الوصول الى اتفاق معها يُضعِف ذلك الجانب المواجه للولايات المتحدة.
4- هناك رأي أمريكي يرى أن إيران الآن مستعدة لاتفاق واسع، خاصة أن أساليب الضغط الاقتصادي الشديدة التي مارستها إدارة ترامب على ايران كان لها فِعلها.
هناك 3 نقاط تدفع نحو اتفاق:
1- الجانبان يريدان اتفاقًا واسع الأبعاد
ذلك أن دوائر التفكير المهمة في الحزب الديمقراطي مقتنعة منذ عقد من الزمن على الأقل، بأن من مصلحة الولايات المتحدة تغيير تحالفاتها الرئيسية في الخليج، خاصة وأن تلك التحالفات واصلة في تأثيراتها الى شرق المتوسط وشمال أفريقيا. في تلك الرؤية، إيران لاعب قوي، ذكي، له أذرع فعالة في عدد من الدول، وكما أسلفت، قد أثبتت قدرتها على النجاح في عدد من الصراعات. في المقابل، في هذه الرؤية، العديد من الحلفاء التقليديين في الخليج، لم يثبتوا قدراتهم بنفس الشكل.. على الناحية الأخرى، إيران اليوم (وفي الواقع منذ أكثر من عقد من الزمن) بعيدة عن التفكير الأيديولوجي البحت للإمام الخميني ومدرسته. على العكس، إيران تتحرك من خلال حسابات براجماتية تريد شيئين: تثبيت سيطرة نظام الجمهورية الإسلامية خاصة وهو الآن أمام مرحلة جديدة بعد خامنئي، وتثبيت الوجود الإيراني في الدول التي توسعت فيها في الـ15 سنة الماضية. وإيران تعلم أن الولايات المتحدة (وخلفها إسرائيل) هي اللاعب الوحيد القادر على تهديد هذين الهدفين. كذلك، إيران، بغض النظر عن سرديات اعلامها، تحاول منذ فترة ارسال رسائل للولايات المتحدة أن هذين الهدفين ممكن أن لا يتعارضا مع مصالح الولايات المتحدة في الخليج وفي شرق البحر المتوسط.
2- الجانبان لديهما ما يقدمانه للآخر
الولايات المتحدة تستطيع رفع العقوبات الاقتصادية التي آلمت ايران. كما أن الولايات المتحدة تستطيع تثبيت بعض التوسعات الإيرانية وجعلها واقعًا ليس فقط على الأرض ولكن أيضا في دوائر السياسة الدولية، وتلك القدرة حكرًا على الولايات المتحدة.
في المقابل، إيران هي اللاعب الأهم في المعسكر المضاد للولايات المتحدة في الخليج والشرق الأوسط. وايران تعلم أن هدف الولايات المتحدة ترتيب المنطقة قبل دخولها في صراعها الأكبر والأهم مع الصين. وعليه، فإن إيران بموقعها في الخليج ونفوذها في شرق المتوسط لديها ما تقدمه لأمريكا في ذلك الصراع الكبير القادم.
3- إيران تدرك أن لا الصين ولا روسيا يضعان العلاقة معها على مستوى استراتيجي يدفعهما الى تقديم مساعدات اقتصادية كبيرة تعوض ما يضيع بأثر العقوبات الأمريكية. ولذلك فإن هناك احتياج إيراني الآن لاتفاق. في المقابل هناك احتياج أمريكي، أيضا في هذه اللحظة. ذلك ان إدارة بايدن جعلت من الملف الأيراني وتداعياته على الخليج وشرق المتوسط أولوية ، وهذا ظاهر في الدوائر الدبلوماسية الآن. والحاصل من ذلك، أن الإدارة الأميركية الجديدة لا تريد ان تبدأ عملها بفشل في الملف الأهم في سياستها الخارجية.
لكن .. هناك 5 نقاط ضد الاتفاق:
1- هناك صراع بين الإمبراطورية والدولة المتوسعة
الولايات المتحدة ما زالت تنظر للمنطقة كلها ولكل علاقاتها فيها من خلال نظرة إمبراطورية. إيران في المقابل ترى في نجاحاتها في الـ15 سنة الماضية ما يؤهلها لاتفاق فيه قدر من الندية. هذا الإختلاف في الفكر له تداعياته على حساب المكسب والخسارة في أي اتفاق بين الدولتين. والحساب الأهم هنا يتعلق بحدود التوسع الإيراني. صحيح أن هناك أصوات مهمة داخل إدارة بايدن ترى وتقدر نجاحات ايران – وبعضهم لديه إعجاب شديد بالحضارة الإيرانية – لكن مع ذلك، فإن الولايات المتحدة ترى نطاقاً معيناً للتوسع الإيراني. أي لا يمكن في الرؤية الأمريكية، تحت أي عامل، أن يستمر التوسع الإيراني في تهديد إسرائيل بشكل دائم في شرق البحر الأبيض المتوسط. وهذا معناه ان أمريكا ستطلب تقليص وجود وإمكانات تراها ايران من أهم نجاحاتها في الفترة الماضية.
2- هناك حساب استراتيجي إيراني معقد
إيران تريد اتفاقاً مع الولايات المتحدة يرفع العقوبات، ويعطيها مساحة حركة في البرنامج النووي، ويثبت توسعها في الدول التي وطدت فيها نفوذاً. لكن ايران أيضا تريد علاقات مميزة مع روسيا (وهي حليف في سوريا) ومع الصين (وهي القوة الصاعدة في كل العالم). لكن، كما أسلفنا، جوهر الاتفاق الأمريكي-الإيراني واصل الى ترتيبات الأمن في المنطقة، ولا شك سيكون مستندًا على ما تراه أمريكا مطلوبًا لهذه المنطقة في استراتيجيتها للتعامل مع الصين. وهذا الوضع سيفرض على ايران حسبة ليست سهلة.
3- هناك نقطة استراتيجية أخرى تعقد فرص الاتفاق، متعلقة بالبرنامج الإيراني النووي
لفترة طويلة، كانت هناك سياسة أمريكية ثابتة بمنع دول غير حليفة لها من الحصول على سلاح نووي قادر على تهديد أهداف غربية. ولعل الفشل في حالة كوريا الشمالية قوى تلك القاعدة أكثر في عقول كثيرين. وهنا الجدير بالملاحظة أن حالة باكستان مميزة، إذ ان سلاحها النووي لا يمكنه تهديد دول غربية، وقد سُمِح به عندما كانت الهند في موقع مقابل للمصالح الامريكية في آسيا بينما كانت باكستان وقتها واحدة من أهم حلفاء الولايات المتحدة في قلب آسيا وعلى الحدود مع الاتحاد السوفياتي .. المهم هنا أن أي اتفاق أمريكي-إيراني حول النفوذ والمصالح في المنطقة سوف يستدعي النظر في كيفية تعطيل المشروع النووي الإيراني لسنوات طويلة. لكن إيران بعد تجربتها مع إدارة ترامب لديها محاذير كبيرة من نظام تقييدي لا يتوازى مع مكاسب في الحاضر. والمؤكد أن التفاصيل هنا (والتي سيُتابعها كثيرون، منهم إسرائيل) ستُعقِد النقاشات.
4- هناك لوبيات (دوائر نفوذ) تعمل في واشنطن من أجل ضرب فرص أي اتفاق. صحيح، أن إدارة بايدن في أول شهورها أقل تعرضًا لضغوط اللوبيات. لكن حساب الانتخابات موجود دائمًا في عقل أي إدارة والحزب الذي وراءها، حتى ولو كان الرئيس غالبًا في البيت الأبيض لفترة واحدة.
5- هناك جانب نفسي مهم في الرؤية الإيرانية للولايات المتحدة
ذلك أن أمريكا كانت الداعم الرئيس لنظام الشاه الذي أسقطته الثورة الإيرانية في نهايات السبعينات. والمشكلة هنا أن نظام الشاه لم يكن مجرد هيكل سياسي، ولكنه في عقول قادة الجمهورية الإسلامية، أسلوب تفكير ورؤية للمجتمع والتاريخ وللثقافة الإيرانية، كما أنه في رؤية هؤلاء القادة عمل على تحجيم الفكر السياسي الشيعي. وكل ذلك مضاد لما تمثله الجمهورية الإسلامية. وحيث أن الولايات المتحدة استمرت في عداء مع النظام الإيراني طيلة الأربع عقود الماضية، التي هي عمر تلك الجمهورية الإسلامية، فإن صورة أمريكا في وجدان أصحاب القرار في طهران مقترنة بما هو أكبر من مجرد تعارض مصالح. الموضوع فيه مشاعر غائصة في الوجدان ورؤية شديدة السلبية لأمريكا، على الأقل في عيون الرعيل الأول من قادة هذه الجمهورية.
ديناميكيات العوامل المساعدة و المعارضة للاتفاق معقدة. لكن تلك الديناميكيات تستحق التفكير، لأنها ستُحدِد المتغير الأهم الآن في السياسة في الخليج وشرق البحر الأبيض المتوسط.