من توعد المرشح جو بايدن بجعل السعودية “دولة منبوذة” إلى زيارة الرئيس جو بايدن للمملكة بظل ارتفاع أسعار النفط و”مصافحة القبضة” مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ثم “الصفعة على الوجه” بقرار “أوبك بلس”، وأحكام قضائية بسجن نشطاء لعقود… شهدت العلاقات السعودية الأمريكية في ظل بايدن ومحمد بن سلمان تقلبات حادة على مدار العامين الماضيين، لكن كيف ستبدو خلال العامين المقبلين، والأخيرين في ولاية بايدن الأولى؟
إلى أين وصلت العلاقات الآن؟
خلال حملته الانتخابية، رد بايدن على سؤال عما إذا كان سيعاقب قادة سعوديين رفيعي المستوى على مقتل الصحفي جمال خاشقجي وانتهاكات حقوق الإنسان على عكس موقف دونالد ترامب الرئيس آنذاك، قائلا: “نعم. خاشقجي قُتل وقُطعت أوصاله وأعتقد أن هذا كان بأمر ولي العهد”، وهو ما نفته السعودية. وأضاف بايدن: “أود أن أوضح أننا لن نبيع لهم مزيدا من الأسلحة، وسنجعلهم يدفعون الثمن، ونجعلهم في الواقع منبوذين كما هم”.
وفي فبراير 2021، أي بعد شهر من تنصيبه رئيسا، سمح بايدن بنشر تقرير الاستخبارات الأمريكية عن مقتل خاشقجي، بعدما رفضت إدارة ترامب نشره. وأطلق تصريحات حادة بشأن السعودية في بداية ولايته حول أوضاع حقوق الإنسان وحرب اليمن ورفض التحدث مع ولي العهد السعودي والتواصل فقط مع “نظيره” الملك سلمان.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، ربط بايدن ارتفاع أسعار النفط لمستويات قياسية بالسعودية و”الكثير من الأشخاص في الشرق الأوسط الذين يريدون الحديث معه”، مستبعدا التحدث معهم آنذاك. لكن بعد أقل من شهر وافقت إدارة بايدن على أول صفقة أسلحة للسعودية، وخفت حدة تصريحاته بظل ارتفاع أسعار النفط وزيادة التضخم في بلاده وتفاقم الأزمة بالحرب الروسية على أوكرانيا، إلى أن زار السعودية في يوليو/ تموز 2022 بعد دعوات عدة لزيادة إنتاج النفط، لكنه أرجع الزيارة لأسباب أخرى لا تتعلق بأسعار النفط.
ويرى الدبلوماسي الأمريكي السابق آرون ديفيد ميلر، الباحث الأول في مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي، أن العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية “تحسنت” مؤخرا، ولكنها “ما زالت تحت ضغوط كبيرة، من غير المحتمل أن يتم إغلاقها في أي وقت قريبًا”.
وقال ميلر، في تصريحات ، إن “جزءًا من هذه المشكلة ينبع من صعود محمد بن سلمان”، مضيفا: “رغم إصلاحاته إلى حد ما داخليًا، فقد برز أيضًا باعتباره قاسيًا جدًا وسلطويًا وقمعيًا وشخصًا يخضع حكمه فيما يتعلق بمصالح الولايات المتحدة والسياسة الخارجية الأمريكية للتساؤل”، وتابع بالقول: “أعتقد أن هذا هو السبب المباشر للتوترات”.
من جانبه، وصف المحلل السياسي السعودي سلمان الأنصاري، مؤسس لجنة العلاقات العامة السعودية الأمريكية (سابراك)، أن علاقة الرياض وواشنطن “علاقة استراتيجية ومهمة للأمن الإقليمي والعالمي”، وقال إن “جو بايدن أخطأ أخطاء فادحة بسبب فريقه السياسي المحتقن ضد الرياض، ولكن يبدو أن واشنطن بدأت نسبيا بتصحيح أخطائها”.
وأكد الأنصاري أن ملف حقوق الإنسان في السعودية “ليس من اختصاص أي دولة في العالم، والحديث عنها ليس إلا محاولة تسييس واضحة لا أقل ولا أكثر”. وقال: “من ينكر حجم الإصلاحات الاجتماعية في المملكة إما أن يكون مغفلا أو متغافلا”.
وأضاف الأنصاري في تصريحات : “السعودية دولة ذات قيم عربية وإسلامية راسخة ومن أرضها انطلقت أعظم حضارة إنسانية، فليس من حق أمريكا أو غيرها أن يعملوا على وضع وصاية أخلاقية على المملكة، علما بأن انتهاكات حقوق الإنسان في أمريكا ليس لها حدود، ونوصي أمريكا في العمل على تصحيح هذه الانتهاكات في داخل بلدهم بدلا من التعامل بتعجرف وتعال غير أخلاقي مع الأمم الأخرى”، بحسب تعبيره.
هل تراجع الدور الأمريكي في المنطقة؟
قال الأنصاري إن “الولايات المتحدة ظنت، وبشهادة الرئيس بايدن، أن بإمكانها تجاهل منطقة الشرق الأوسط، والالتفات إلى شرق آسيا، ولكن أثبتت المعطيات أن الشرق الأوسط أهم منطقة في العالم سواء في مجال الأمن العالمي أو الطاقة، أو التجارة والمعابر البحرية والجوية”.
من جانبه، اعتبر ميلر أن “القرار الأمريكي بتقليل الأولوية التي تمنحها للمنطقة يرجع إلى تحديات أخرى في السياسة الخارجية الأمريكية، أكثر أهمية في التأثير على السلام والأمن والازدهار الأمريكي، مثل صعود الصين، وتحديات المناخ، وجائحة كورونا، والتحدي من روسيا”، مضيفا: “كل ما سبق مع إحساس بأن ما تعاني منه هذه المنطقة ربما يكون فوق قدرة أمريكا على الإصلاح”.
وتابع بالقول: “كذلك الشعور السائد بين الملوك ورجال الشرق الأوسط الأقوياء بأن الولايات المتحدة لم يعد من الممكن الاعتماد عليها لتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان وغياب القيم الديمقراطية في هذه الدول”.
وأشار ميلر إلى أن “السمة المركزية للعلاقة الأمريكية السعودية كانت حاجة الأمريكيين لتسهيل الوصول إلى الهيدروكربونات العربية، وحاجة السعوديين للمساعدة الأمنية والدعم من الولايات المتحدة لمواجهة تحديات السياسة الخارجية الإقليمية”.
وقال الدبلوماسي الأمريكي السابق إن تلك السمة أصبحت “أقل استقرارًا بكثير”، مضيفا: “السعوديون يتنافسون الآن مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالنفط، ليس هناك شك في ذلك. ولديهم مصالحهم الخاصة للسعي نحوها، ولن يتخلوا عن علاقاتهم الوثيقة بشكل متزايد مع الصين”.
وتابع بالقول: “هناك دليل متزايد على أن السعوديين بحاجة إلى الحفاظ على علاقتهم مع الصين، والأمر نفسه مع أوبك بلس وعلاقتهم مع الروس”.وأوضح ميلر أن “كل هذا يثير التساؤلات، من وجهة نظر أمريكا، عما إذا كانت المصالح الأمريكية والسعودية تتماشى سويًا بقدر ما كانت في الماضي، وبالتأكيد من وجهة النظر السعودية، عما إذا كان يمكن الاعتماد على أمريكا لتلبية متطلبات الأسلحة السعودية، وكذلك لتوفير الأمن”، مضيفا: “أعتقد أن صفقة النفط مقابل الأمن تتعرض أيضًا لضغوط”.
“أوبك بلس” بعد زيارة بايدن للسعودية
في 3 أغسطس/ آب الماضي، أعلنت “أوبك بلس” عن زيادة بسيطة بلغت 100 ألف برميل نفط في إنتاج دول المجموعة خلال شهر سبتمبر/أيلول، وهو القرار الذي وصفه محللون بأنه “صفعة على الوجه” بعد زيارة بايدن للسعودية والضغوط الأمريكية لزيادة الإنتاج. وفي اجتماعها الشهري التالي قررت خفض الإنتاج بمقدار 100 ألف برميل، بينما أكد البيت الأبيض على أهمية أن تلبي إمدادات الطاقة الطلب العالمي.
وقال سلمان الأنصاري إن “قرارات أوبك بلس قرارات أثبتت أن سيادة السياسات الاقتصادية لدى الدول المنتجة للنفط لا يمكن التفاوض حولها”. وأضاف أن “الرياض عززت هيبة الدول العربية وجعلت قراراتهم السيادية بناء على مصالحهم وليس مصالح الاخرين”، على حد تعبيره.
من جانبه، قال ميلر: “لا يبدو أن السعوديين قد أوفوا بالوعود التي أعتقد، لكن لست متأكدًا، أنهم قد قدموها. وكنت شديد الانتقاد لاجتماع أوبك بلس في 3 أغسطس، اعتقدت أنه ربما لم يكن لدى الإدارة الأمريكية ضمانات رسمية، لكن توقعت أن السعوديين سيواصلون زيادة الإنتاج كما فعلوا في حصص يوليو وأغسطس، ولكن ذلك لم يحدث”.
“خسارة” بايدن و”فوز” محمد بن سلمان
ميزان المكاسب والتنازلات كان قائما بالفعل قبل بدء زيارة بايدن للسعودية وبعدها، وعما إذا كان بايدن هو “الخاسر” من الزيارة ومحمد بن سلمان هو “الفائز”، قال ميلر: “لا أعتقد أن هناك أي طريقة لإنكار ذلك”، مضيفا أن “السعوديين يشعرون بجرأة أكبر، ومحمد بن سلمان يشعر بأنه مبرّأ، أو كما يُقال فاز”.
وتابع بالقول: “مثل تركيا في زيارة محمد بن سلمان، أعتقد أن ملف خاشقجي، من وجهة النظر السعودية، وربما من وجهة النظر الأمريكية، مغلق الآن”. لكنه أشار إلى أنه “كان هناك القليل من النقاش حول انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في السعودية”، خلال زيارة بايدن.
وذكر الدبلوماسي الأمريكي السابق أنه “كان هناك تقرير يقول بشكل أساسي إن السعوديين يعتقدون بقوة أن زيارتهم إلى أوروبا، (زيارة ولي العهد) لليونان وفرنسا، أصبحت في الواقع ممكنة من خلال زيارة بايدن (للسعودية)”. وأضاف: “لذلك، لا أعتقد أن هناك أي شك في أنه يجب تصورها بهذا الشكل. وهذه هي الطريقة التي يتصورها السعوديون”.
وبدوره، قال الأنصاري: “بلا أي شك، الرئيس بايدن والتقدميون في حزبه اليساري شنوا أكبر حملة مسيئة في التاريخ الحديث ضد شخص ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فهم لم يدخروا جهدا أو أداة في إفشال مشروعه إلا واستخدموه، ظنا منهم بأن ذلك سيؤثر في رؤية المواطنين السعوديين في قيادتهم”، مضيفا: “لكن تفاجأت واشنطن بأن سياستهم ضد الأمير جلبت نتائج عكسية تماما، وأصبح ولي العهد هو الرقم الصعب في الداخل السعودي والإقليمي والعالمي”.
مستقبل العلاقات في العامين الأخيرين من ولاية بايدن الأولى… أو “الأولى والأخيرة”
رأى الأنصاري أن “العلاقات السعودية الأمريكية خلال العامين المقبلين ستكون فاترة علنيا، ولكن قوية استراتيجيا”، وقال إن “كلا البلدين حريصان على تمتين العلاقة لأهميتها الاستراتيجية، ولكن هناك ملف سيكون له دور رئيسي في تحديد شكل وطبيعة العلاقات السعودية الأمريكية؛ وهي إيران وإرهاصات الاتفاق النووي، خصوصا إذا استمرت واشنطن بتقديم التنازلات لطهران وبلا التفات للأمن القومي السعودي والإقليمي”.
من جانبه، قال ميلر: “بشكل عام، أعتقد أنه إذا كان بإمكان محمد بن سلمان إغلاق عينيه وتمني أمنية، فسيأمل ألا يكون بايدن هو الرئيس في عام 2024، وأن يصبح ترامب أو شخص ما يمثل وجهة نظر ترامب في السياسة الخارجية هو الرئيس”.
وأضاف: “أعتقد أنه عندما ينظر محمد بن سلمان، الذي يبلغ من العمر 36 عامًا ويمكنه حكم السعودية لمدة 50 عامًا، إلى جو بايدن الذي سيبلغ 80 عامًا في نوفمبر… يدرك (ولي العهد) في عقله أنه كما لو كان ينظر في مرآة الرؤية الخلفية لسيارته”، بحسب تعبيره. وتابع بالقول: “لا أعتقد أن محمد بن سلمان يحترم جو بايدن، ولا أعتقد أنه معجب به، وأعتقد أنه يعلم أنه يمثل المستقبل وأن جو بايدن يمثل الماضي”.
وحول مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية في ظل بايدن ومحمد بن سلمان، قال ميلر: “سأصف العلاقة بأنها وظيفية. أعتقد أن هناك قضايا يجب إدارتها، الصين وروسيا حقوق الإنسان السعودية، وما يجب فعله حيال إيران إذا تم التوصل إلى اتفاق”.
لكن ميلر لم يستبعد “احتمال ظهور أزمة قد تقرب الولايات المتحدة والسعودية من بعضهما البعض”. وقال: “إذا أجرينا مسحًا للمنطقة الآن بحثًا عن أزمة محتملة نظريًا فإنها قد تكون حول الملف النووي الإيراني”.
وأوضح أنه “إذا لم يتم التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي، أنا لا أقترح أننا سنندفع إلى حرب إقليمية كبرى، لكنني أعتقد أن ما سيحدث هو أن الإماراتيين والسعوديين والمصريين سيباشرون في التفكير بشكل أكثر جدية مما كانوا عليه بالفعل في كيفية الحصول على برنامجهم النووي، بهدف، ربما ليس التسلح النووي، ولكن الوصول إلى نقطة حيث تكون دولهم على عتبة أن تكون قوى نووية”.