في النهاية، لم يدم التمرد طويلا. ولكن لمدة 36 ساعة وجيزة وفوضوية، بدا أن قبضة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على السلطة تتعرض لتهديد خطير، حيث اقترب الآلاف من مقاتلي فاغنر بقيادة أمير الحرب يفغيني بريغوجين من عاصمة البلاد.
ومع ادعاء مجموعة المرتزقة الخاصة أنها استولت على مواقع عسكرية رئيسية في مدينتين روسيتين، اضطر الكرملين إلى نشر قوات مدججة بالسلاح في شوارع موسكو وتحذير السكان ليبقوا في منازلهم.
لكن المواجهة لم تحدث أبدا.
وقال الكرملين، السبت، إنه تم التوصل إلى اتفاق لإنهاء التمرد، مع توجه بريغوجين إلى بيلاروسيا المجاورة، وتراجع مقاتلي فاغنر عن تمردهم.
وحذر بريغوجين، السبت، قائلا: “الآن هذه هي اللحظة التي يمكن فيها إراقة الدماء.. لذلك، إدراكا منا لكل المسؤولية عن حقيقة أن الدم الروسي سيتم إراقته من أحد الجانبين، فإننا ندير صفوفنا ونغادر في الاتجاه المعاكس للمخيمات الميدانية بحسب الخطة”.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، إن مقاتلي فاغنر لن يواجهوا أي إجراءات قانونية، وإن الكرملين “احترم دائما أعمال (فاغنر) البطولية”.
وأضاف: “ستسألني ماذا سيحدث لبريغوجين شخصيا؟ سيتم إسقاط الدعوى الجنائية ضده، وسيذهب إلى بيلاروسيا”، موضحا أن الوضع قد تم حله “دون مزيد من الخسائر”.
ويأتي هذا التحول المفاجئ في أعقاب تحدٍ نادر وملحوظ للكرملين هدد بإغراق البلاد في أزمة وزعزعة استقرار جهودها الحربية المتعثرة بالفعل في أوكرانيا.
فتهديد الحرب الأهلية يترك البلاد- ونظام بوتين- في مكان مختلف تماما، الأحد، عما كان عليه قبل يومين فقط. ومع امتلاك روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم، فإن عدم الاستقرار هذا يجعل الدول الأخرى في حالة توتر، مما أدى إلى اجتماعات طارئة ومحادثات رفيعة المستوى.
تهديد لبوتين
لقد بنى بوتين سمعة كمستبد بقبضة حديدية على السلطة، منذ أن أصبح رئيسا عام 2000، وحكمه ثاني أكثر الفترات طولا بعد جوزيف ستالين، الزعيم الشيوعي.
وأدت حالات الوفاة الغامضة لمنتقدي بوتين على مر السنين، ولنقاد الحرب الأوكرانية مؤخرا، إلى تعزيز قبضة الكرملين للسيطرة الكاملة والعواقب على الذين يخرجون عن المسار.
لقد اهتز هذا الأمر الآن بشدة، بسبب تمرد فاغنر، حيث حذر الخبراء من أن بوتين قد يكون أكثر انكشافا مما كان عليه في السنوات الـ23 الماضية.
وقالت إيفلين فاركاس، المديرة التنفيذية لمركز أبحاث ماكين ومقره الولايات المتحدة: “من الواضح أن بوتين ضعيف”. وأضافت أنه يمكن اعتبار هذه الأزمة الحالية فرصة لمنتقدي بوتين أو خصومه داخل الكرملين.
وأعرب بعض المراقبين الدوليين عن دهشتهم مما يرون أنه رد روسي باهت على التمرد، مع عدم وجود استراتيجية سريعة ومتماسكة تسلط الضوء على ضعف قدرات الجيش.
وسيتعين على بوتين أيضا التعامل مع المشاعر العامة المهتزة داخل روسيا. لا يزال الدعم المدني للحرب في أوكرانيا مرتفعا، لكن التصدعات بدأت بالظهور في أوائل العام الحالي.
وخلال الأشهر التي تلت ذلك، وصلت الحرب إلى الأراضي الروسية، إذ شنت أوكرانيا هجومها المضاد. وشهدت منطقة بيلغورود الروسية هجوما عبر الحدود من قبل مواطنين روس مناهضين لبوتين في مايو/ أيار الماضي، بينما تعرض الكرملين نفسه لهجمات مزعومة بطائرات مسيرة.
وظهر الانقسام الناشئ بين موسكو وبعض المدنيين فيها بوضوح، السبت، حيث كان بريغوجين وقواته يستعدون لمغادرة مدينة روستوف أون دون الروسية، بعدما احتلوا لفترة وجيزة منشأة عسكرية رئيسية. وأظهر مقطع فيديو تم التحقق منه وتحديد موقعه الجغرافي بواسطة سيارة بريغوجين وهي تتوقف عندما اقترب أحد السكان من مصافحة رئيس فاغنر، وكان السكان من حوله يهتفون.
وروستوف أون دون هي عاصمة إقليمية مهمة لها قيمة لوجستية واستراتيجية، وتضم مقر المنطقة العسكرية الجنوبية لروسيا.
وقال العميد المتقاعد بالجيش الأمريكي الجنرال بيتر زواك، السبت: “كل هذا يمتد إلى قلب روسيا”.
وقال بيث سانر، نائب المدير السابق للمخابرات الوطنية لتكامل المهام، إن الحادث قد يشهد “مضاعفة بوتين للقمع في روسيا” في محاولة لاستعادة السيطرة، وكذلك تصعيد قتاله في أوكرانيا.
وأضاف سانر: “لقد تعرض للإذلال”. “سيحاول إعادة تأكيد (قوته)… لن يتوقف بوتين ليسمح لكل هذا بالتطور”.
العالم على حافة الهاوية
لقد سلط التمرد الضوء أيضا على القدرات النووية لروسيا، وما قد يدفع بوتين لاستخدامها.
وانخرط بوتين مرارا في التهديد بالسلاح النووي، وأعلن في وقت سابق من هذا العام، أنه سيخزن أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، أحد أقرب حلفاء موسكو، ووصلت طلائع تلك الأسلحة هذا الشهر إلى بيلاروسيا.
وقال مسؤولان أمريكيان ، إنه لا يوجد أي تغيير في الموقف النووي لروسيا منذ بدء التمرد.
وأوضح متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة “ليس لديها سبب لتعديل وضع قواتها التقليدية أو النووية”، وأن لديها “قنوات اتصال طويلة الأمد مع روسيا بشأن القضايا النووية”.
لكن هذه القنوات الآن أضيق بكثير من ذي قبل. ففي وقت سابق من هذا العام، علقت روسيا مشاركتها في معاهدة الحد من الأسلحة النووية الوحيدة مع الولايات المتحدة، مما يعني أن الدولتين لم تعودا مطالبتين بتبادل معلومات، مثل موقع بعض الصواريخ ومنصات الإطلاق.
وتوقع مسؤولو الاستخبارات الأمريكية العام الماضي، وجود صراع داخلي على السلطة بين جماعة فاغنر والحكومة الروسية، مع توقف غزو أوكرانيا، بحسب كبار المسؤولين الأمريكيين.
وعقد المسؤولون الأمريكيون اجتماعات طارئة، ليلة الجمعة، لتقييم الأحداث، بينما تحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين مع نظرائه من كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، السبت.
كما تحدث قادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، السبت، قبل أن تتراجع فاغنر عن تقدمها، وفقا لما أعلن “داونينغ ستريت”.