حتى كتابة هذه السطور، لم يسقط بعد “أبو” البرنامج النووي والصاروخي في الحرس الثوري الإيراني “العالم” محسن فخري زاده سوى قائد من الحرس ذاته، مسلم شهدان، ولكن على الحدود العراقية السورية، بحسب تصريحات منسوبة لمصادر أمنية عراقية ومسؤولي فصائل مسلحة بينما نفت طهران ذلك. الأخير، شهدان، قضى بصاروخ طائرة بلا طيار، بحسب تلك التقارير، على غرار الجنرال قاسم سليماني قرب بغداد مطلع العام الحالي، فيما قالت آخر الروايات الإيرانية إن فخري زاده تم “اغتياله” بضواحي طهران عبر مدفع رشاش مثبت على حافلة تم توجيهه وإطلاق نيرانه عبر الأقمار الصناعية!
قبل هذا وذاك، سلسلة من الانفجارات والحرائق تقع هنا وهناك، من إيران إلى لبنان على امتداد ما وصف يوما بـ”الهلال الشيعي”. فسوريا والعراق نالهما مما يجري جانبا أحيانا بشكل مباشر وأحيانا أخرى من خلال الوجود الإيراني أو “وكلائه”.
لا أظن أحدا بغافل على أن ما نشهده هو حرب حقيقية. تريدها طهران حربا بالوكالة عبر أربع ساحات عربية، ويبدو أن الجهة المقابلة بكل أطرافها، قررت قلب المجنّ واللجوء إلى خيار مختلف تماما، إلى حرب من نوع آخر، هي أقرب إلى الاستنزاف عبر عمليات استخبارية نوعية “نظيفة”.
حتى الآن، لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن تصفية فخر زاده كعادتها في عمليات ذات مخاطر أو كلف عالية. من الأمثلة ذات الدلالة، قصف مفاعل “تموز – أوزيراك” جنوب شرق بغداد في السابع من يونيو ١٩٨١، وبعد ذلك بعقدين، قصف موقع “الكبر” النووي في محافظة دير الزور شرق سوريا في السادس من سبتمبر ٢٠٠٧ (هذه العملية الوحيدة التي اعترفت بها إسرائيل). غالبا ما يتم الاكتفاء بالصمت، ليدلي الجميع بدلوه فيما يبدو خيارا مدروسا بعناية لتعظيم النتائج أو تكثيف الرسائل..
المهم في المحصلة: ليس من التالي بقدر ماذا بعد؟ الأهداف ستبقى متاحة في بنك الأهداف الذي تمتلكه الأطراف المعنية في هذه الحرب لكن التوقيت من شأنه خلط الأوراق بما يحد من حرية الحركة وبالتالي الرد وفقا للمقولة التي باتت تثير الشفقة والضحك معا: الرد في المكان والزمان المناسبين! واضح أن هامش القدرة على أي رد حتى ولو كان إعلاميا دعائيا آخذ بالتضاؤل والتآكل. المسألة باتت -بعد تلاحق الضربات النوعية- مسألة مصداقية الوعد وجدية الوعيد.
خطورة السلسلة الأخيرة من الضربات الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة ليس ساحات الاستهداف أو نوعية الأهداف فقط وإنما أيضا -وهو الأكثر خطورة- التوقيت. بصرف النظر عن وجود موافقة أو تنسيق أو حتى غض طرف أمريكي، أو دول أخرى في منطقة الخليج أو الشرق الأوسط عموما، فإن تلك الضربات جاءت في خضم المعركة الانتخابية غير المسبوقة في أمريكا. وتأتي أيضا في مرحلة انتقال “مفترض” للسلطة.
بصرف النظر عن العرف القائل بالامتناع عن اتخاذ قرارات مبادرة ذات عواقب تتجاوز المرحلة الانتقالية، فإن المنطق السائد على الأقل لدى ترامب ومن يؤيد خياراته ونهجه، لا يتحرج من اتخاذ قرار من هذا النوع لأحد اعتبارين: توريط إدارة جو بايدن – الرئيس المنتخب المفترض – بمسار يلزمها بمواصلة الضغط على طهران، أو تحضير الأرضية الكفيلة بإقناع نظام الملالي بأن “التشخيص” الأمين لـ”مصلحة النظام” تقتضي أن “يجنحوا” للسلم، فيتحقق وعد انتخابي آخر – أخير – لترامب بصرف النظر عن ساكن البيت الأبيض في العشرين من يناير المقبل.