لم تكد تمرُ أيام على بدء تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بشكل هائل، حتى أُجبرت أغلب دول العالم -ديمقراطية وغير ديمقراطية- على الاستعانة بجيوشها لمواجهة عدوٍ غامض لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه ينتشر بسرعة كالنار في الهشيم في ظل عدم التزام المواطنين بالإجراءات الوقائية اللازمة أو لعدم الإيمان بثقافة الوقاية والالتزام بالقرارات الحكومية، وهو ما جعل دور الجيوش على اختلاف دُولها محوريًا في مواجهة ذلك العدو الجديد الغامض “كوفيد-19”.
وفي وقت لا يزال العالم يبحث فيه عن حل لاحتواء الفيروس، تنامت أدوار الجيوش الوطنية ليس في دول شرق وجنوب العالم فحسب، وإنما في أوروبا والولايات المتحدة.
تجارب عملية
ما إن تفشى الوباء في الصين، حتى أعلنت سلطات البلاد إرسال عناصر جيش التحرير الشعبي الصيني إلى خط المواجهة في مدينة “ووهان” وعشرات المدن الأخرى، من أجل المشاركة في مواجهة الفيروس والسيطرة على وتيرة تفشيه، حيث انتشر نحو 450 طبيبا عسكريا بجيش التحرير الشعبي الصيني في مدينة “ووهان”، من بينهم من له خبرة في مكافحة “سارس” و”إيبولا”، في حين انتشر عناصر الجيش الصيني على مداخل ومخارج المدن الموبوءة وأرغموا المواطنين على عدم الخروج من منازلهم أو التنقل بين المدن ومنعوا الاحتفالات بالأعياد الصينية نهائيا، إضافة إلى حظر حركة السير غير الضرورية داخل “ووهان” ومنع القطارات والطائرات تماما.
ووفقا لقرار السلطات الصينية، وُضعت مقاطعة “هوباي” التي يعيش بها نحو 56 مليون مواطن تحت الحجر الكامل تحت سلطة جيش التحرير الشعبي الصيني، وبعد نحو 4 أشهر من الحجر المستمر، نجحت الصين بفضل إجراءاتها العسكرية في احتواء انتشار الفيروس وتخفيض نسب الإصابات والوفيات إلى حد كبير.
ومع ذلك، فإن التجربة الصينية لم تكن جذَّابة في البداية بالنسبة لدول أوروبا والولايات المتحدة، لكن التطورات المتلاحقة في إيطاليا كانت سببًا كافيًا لدول أوروبية وشرق أوسطية لأخذ العبرة في مواجهة الفيروس، فالقرار الإيطالي بنشر قوات الجيش في الشوارع لفرض الإجراءات الوقائية وفرض الحظر من أجل مواجهة الفيروس، جاء متأخرًا بعد أن تخطى تعداد الإصابات في إيطاليا 40 ألف حالة تقريبا، وهو ما دفع دول أخرى إلى استباق انتشار الفيروس داخلها من خلال نشر القوات العسكرية في جميع الأنحاء، بهدف فرض الإجراءات الوقائية وضمان الالتزام بالإجراءات التي فرضتها السلطات المدنية، لا سيما بعد أن عجزت السلطات المدنية وحدها في إدارة الأزمة.
كان يوم 20 مارس 2020 فارقًا في معركة إيطاليا مع الفيروس الذي تفشى بسرعة هائلة في أوساط الإيطاليين نظرًا إلى عدم التزام جزء كبير منهم بالإجراءات الوقائية التي أعلنتها الحكومة، فسجلت إيطاليا في ذلك اليوم أعلى معدل للوفيات في ذلك الحين بمعدل 3405 حالة وفاة في يوم واحد، ما استدعى إعلان رئيس الوزراء جوزيبي كونتي تمديد الحظر على جميع الأنشطة غير الضرورية وإعلان استدعاء الجيش الإيطالي للمساعدة في تفعيل القيود على حركة المواطنين، بعد أن كانت حكومته نشرت بالفعل جنود في إقليمي صقلية وكالابريا في جنوب البلاد. كما استعانت إيطاليا بالجيش للمساعدة بتأمين الموارد ونقلها وإدخالها إلى المناطق المتضررة، والمساهمة في دعم القطاع الطبي.
وعلى النقيض، كانت تجربة المملكة الأردنية مثالًا يُحتذى به في الاستعانة بالجيش لاحتواء انتشار الفيروس، فمع ظهور أولى الحالات في الأردن، أعلنت الحكومة في السابع عشر من مارس 2020، استدعاء قوات الجيش وانتشارها في كل أنحاء المملكة وعلى مداخل المدن ومخارجها، بهدف فرض التعليمات الصادرة والإجراءات الوقائية من أجل احتواء انتشار الفيروس، وعلى رأسها منع خروج المواطنين من منازلهم إلا للضرورة القصوى، وحظر أي تجمع يفوق عشرة أشخاص، وتعطيل العمل بالقطاع الخاص بشكل كامل باستثناء القطاع الصحي وقطاعات حيوية أخرى.
وبعد شهر ونصف تقريبا من الإجراءات الصارمة التي فرضها الجيش الأردني في كل أنحاء البلاد، أعلن وزير الصحة الأردني سعد جابر الأحد الماضي، عدم تسجيل أي إصابات بفيروس كورونا لليوم السادس على التوالي في المملكة الأردنية وتوقف عدد الإصابات عند 461 حالة فقط، من بينها 64 تتلقى العلاج في المستشفيات.
لكن الأمر لم يتوقف عند حدود الصين وإيطاليا والأردن، فتجارب الدول الثلاث دفعت الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية وشرق أوسطية إلى الاستعانة بجيوشها من أجل المشاركة في احتواء الفيروس، حيث أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نهاية شهر مارس الماضي، طلبه مساعدة الجيش الأميركي من أجل “بناء منشآت مؤقتة للمرضى”، في وقت أعلنت فيه وزارة الدفاع البريطانية وضع 20 ألف جندي في حالة استعداد لمساعدة أجهزة القطاع العام في إطار “قوة الدعم في مواجهة كوفيد”، إلا أن التردد في استخدام تلك القوات كان سببا في تفشي الفيروس بشكل هائل في بريطانيا.
أما فرنسا، فقد قررت في 19 مارس الماضي، استدعاء الجيش الفرنسي لتطبيق “حالة الطوارئ الصحية”، وهي الحالة التي تتيح للسلطات الفرنسية فرض قيود صارمة لمواجهة تفشي فيروس كورونا، حيث تضمنت تلك الإجراءات تطبيق حالة الطوارئ ونشر قوات الجيش الفرنسي في المناطق المتضررة وإنشاء مشاف عسكرية في عدة مناطق بالقرب من الحدود مع ألمانيا. وقد لجأت إسبانيا التي تفشى فيها الفيروس بشكل هائل أيضا، لاستدعاء 8 آلاف جندي لفرض حظر التجول والإجراءات الوقائية التي أقرتها الحكومة الإسبانية.
لماذا الجيوش؟
وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وجهت لنشر الجيوش والقوات العسكرية للسيطرة على حركة المواطنين واحتواء انتشار الفيروس، فإن تلك الخطوة نبعت في الأساس من الالتزام والانضباط الذي تتسم به طبيعة المؤسسات العسكرية الجيوش على اختلاف بلدانها، إضافة إلى ثبوت قدرتها على مواجهة الأزمات والكوارث، سواء كانت بيئية أم اجتماعية أم سياسية أم أمنية.
بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”، فإن السبب الرئيسي في فعالية دور الجيوش هو الانضباط الهائل الذي يتمتع به أفراد المؤسسات العسكرية وقدرتهم على ضبط المجتمعات والسيطرة عليها، إضافة إلى امتلاك الجيوش مهارات متنوعة يحملها الرجال والنساء المُدربون والمنضبطون القادرون على الحركة والعمل في فترة زمنية قصيرة جدًا، إضافة إلى امتلاكهم المعدات اللوجيستية والتسهيلات اللازمة مثل القواعد والمطارات العسكرية.
ونظرًا إلى طبيعة العمل العسكري، فإن الجيوش -بحسب ما تقول “بي.بي.سي”- تمتلك فرقا طبية عالية التدريب رغم قلة عددها، كما أن “موارد الجيوش لا تنضب، فالجنود مدربون على الإسعافات الأولية ويمكنهم المساعدة في العديد من الأدوار الثانوية”. أما من ناحية تطبيق الإجراءات الوقائية والقرارات الحكومية، فتقول “بي.بي.سي”، إنه رغم رغبة أغلب الحكومات الغربية إلى إبقاء مسألة فرض القيود على المواطنين تحت سيطرة الشرطة المدنية، فإن بعض الحالات أثبتت أن الجيوش أكثر قدرة على فرض النظام والأمن ومنع انتهاك القرارات الوقائية.
لم تعتد الطواقم الطبية على مستوى العالم التعامل مع وضع مُهدد للحياة بهذا الشكل على الرغم من انتشار أوبئة سابقة حول العالم، لكن الأهمية المُلحة التي فرضها فيروس كورونا المستجد تختلف عن غيرها تماما، وهو ما دفع أعتى الديمقراطيات حتى للاستعانة بجيوشها واستدعائها إلى الشوارع، لكن كلمة السر في الإجابة عن السبب في ذلك تكمن -بحسب ثلاثة عسكريين أميركيين سبق أن خدموا في العراق وينتشرون حاليا لمواجهة الفيروس أدلوا بتصريحاتهم لمجلة “فوربس” الأميركية- هو أن التدريبات العسكرية تمنح الجنود الخبرة والقدرة والانضباط الكافي للمشاركة بفعالية في مواجهة الفيروس أو على الأقل الحد من انتشاره.
ويقول ممرض الطوارئ حالياً الجندي السابق بالبحرية الأميركية في العراق عام 2003 جايسون وود، إن الانضباط العسكري هو كلمة السر في قدرة الجيوش على التعامل مع فيروس كورونا، مؤكدا أنه “ليس هناك وسيلة أبدًا لتدريب شخص بين ليلة وضحاها على التعامل مع التهديدات المُلحة التي تعرض الحياة للخطر، ولكنني أعتقد أن هناك من تدربوا جيدا بمعداتهم ويثقون في أنفسهم ومعداتهم ويمكنهم التغلب على مخاوفهم، وهؤلاء هم عناصر الجيوش، لأننا في الجيش نتعلم الانضباط.. ومجرد أن تتعلم الانضباط فإنه يلازمك طوال حياتك ويمكنك استغلاله كما تريد من خلال التأقلم مع الأوضاع الراهنة والتغلب عليها”.
لكن الانضباط ليس وحده ما يجعل الجيوش أكثر قدرة على ضبط الشارع وفرض إجراءات الوقاية، بحسب كيفين مانوس أحد جنود البحرية الأميركية الذين خدموا في العراق، فهو يقول إن هناك سر آخر لقدرة القوات العسكرية على الحد من انتشاره، وهو أن كل من ينتسبون إلى الجيوش يتعلمون كيفية “التفكير السريع الصحيح تحت الضغط”، مضيفا: “أعتقد أن تدريبي العسكري هو السبب في الهدوء الحالي الذي أتعامل به حين أتعامل مع الحالات المصابة، وقد ساعدني هذا التفكير على أن أبذل قصارى جهدي لأننا أصبحنا معتادين بالفعل على التعامل مع الضغوط المستمرة من خلال التدريبات العسكرية الشاقة التي كنا نخضع لها”.
اضطرابات الشرق الأوسط
عادة ما يكون انتشار الجيوش في الشوارع مؤشرًا إلى انعدام الاستقرار السياسي أو اضطرابات السلطة والحكم، لكن انتشار الجيوش في كل أنحاء العالم تزامنا مع تفشي فيروس كورونا بشكل هائل، حمل معانٍ مختلفة هذه المرة رغم أنها ليست بالأمر غير المعتاد في بعض الحالات، ففي أوروبا على سبيل المثال تنتشر قوات الجيش في حالات الفيضانات أو الكوارث للمساعدة في احتواء التداعيات. ولا يمكن تجاهل إعصار كاترينا الذي ضرب الشواطئ الأميركية عام 2005، ما استدعى نشر 70 ألف جندي أميركي للمشاركة في خطة احتواء تداعيات الإعصار.
الواقع هو أن دور الجيوش أصبح محوريًا في عدد كبير من دول العالم، خلافًا للاعتقادات السابقة التي سادت بشأن ضرورة عدم تدخل الجيوش في الحياة المدنية. وبات دور الجيوش بمثابة صمام أمان للحفاظ على استقرار الدولة، وبات انهيار المؤسسات العسكرية مؤشرًا لانهيار الدول بأكملها.
في العراق، كان النموذج واضحًا بعد حل الجيش العراقي في أعقاب التدخل الأميركي في عام 2003، فقد كان ذلك إيذانًا بمرحلة جديدة من انعدام الاستقرار والإرهاب والفوضى في البلد الذي عاش مستقرًا إلى حد كبير لسنوات طويلة. وقد تكررت المأساة العراقية مرة أخرى بعد ظهور “تنظيم الدولة” في العراق، وانهيار الجيش العراقي بشكل سريع في مواجهة التنظيم، ما فتح فصلا جديدًا من الفوضى في العراق الذي يعاني بالأساس.
وبالمثل، كان تدخل الجيش السوري في أحداث ما بعد اندلاع المظاهرات السورية في عام 2011، كفيلًا بتآكله وتحوله إلى طرف من أطراف النزاع، فتفجرت الحرب الأهلية وانخرطت فيها أطراف النزاع الدولية والإقليمية. وعلى مدار 9 سنوات هي عمر الأحداث في سوريا، تسبب انهيار المنظومة العسكرية السورية في تحول البلاد إلى ساحة حرب مفتوحة راح ضحيتها مئات الآلاف وتشرد ونزح بسببها الملايين. يحمّل المعارضون السوريون المؤسسة العسكرية مسؤولية القمع والقتل، لكن أنصار الحكومة يقولون إنها حمت البلاد من التفكك الكامل.
وفي اليمن، كان الوضع مشابهًا إلى حدٍ كبير، فقد أدى انهيار الجيش اليمني إلى انتشار الفوضى وسقوط العاصمة وعدد كبير من المدن اليمنية الكبرى. ورغم الانتقادات، فقد كان الجيش خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح وقبله، سببًا في ضبط الوضع داخل البلاد، رغم الخريطة القبائلية المعقدة، ورغم حروب ست خاضتها الدولة ضد جماعة الحوثي بين عامي 2004 و2010.
أما في مصر، فصحيح أن تحرك الجيش في عام 2013 للإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، لقي معارضة حركات دينية وبعض الشخصيات المدنية ودول غربية، إلا أن الجيش قال في بيانه بعد التحرك إنه “يستند إلى التفويض الشعبي الهائل من الشعب للدولة في التعامل مع الإرهاب والعنف اللذين يهددان بتحلل الدولة وانهيار الوطن”، وكانت قد ارتفعت التحذيرات في تلك الفترة من نذر حرب أهلية وتفتيت للدولة. ورغم المظاهرة الحاشدة المؤيدة لتدخل الجيش، إلا أن دوره لقي بعض الانتقادات، خاصة بعد فضه بالقوة اعتصامًا لجماعة الإخوان ومناصري مرسي في أغسطس 2013.
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يلجأ فيها المصريون إلى جيشهم لإعادة الانضباط والاستقرار إلى الشارع، فالوضع في 2013 كان مشابهًا إلى حد كبير مع ما جرى في يناير عام 2011، حيث كانت تلك هي المرة الأولى التي ينتشر فيها الجيش المصري في شوارع الدولة قبل أيام معدودة من إعلان الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك تنحيه عن الحكم بعد نحو 30 عاما في السلطة. وعلى مدار الفترة التي تلت إعلان التنحي، تولى المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد في تلك الفترة الحساسة التي شهدت انفلاتا كبيرا، حتى إجراء الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2011 والرئاسية في يونيو 2012.
كذلك كان الوضع مشابهًا إلى حدٍ كبير في الجزائر، فقد تدخل الجيش الجزائري لاحتواء الأزمة في أعقاب المظاهرات الحاشدة ضد نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وقد نجحت المؤسسة العسكرية في إتمام عملية الانتقال السلمي للسلطة ونقلها إلى السلطة المدنية بانتخاب الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون. انقسم الشارع حول عملية الانتقال، فمنهم من رأى أنها شكلية، ومنهم من أيدها، لكن الثابت أن البلاد لم تنخرط في دوائر الفوضى، كغيرها من الدول التي شهدت انهيارًا لمؤسساتها العسكرية.
أما تجربة السودان فليست ببعيدة، إذ رغم انتقادات قوى سياسية هناك لدور المؤسسة العسكرية في البلاد، لكن لا تغفل معظم القوى، حتى المعارضة منها، دور الجيش والتشكيلات الأخرى في تنحية الرئيس السابق عمر البشير، وإخراج البلاد من أزمتها في أبريل عام 2019 بأقل الخسائر، لكن القوات الأمنية لقيت انتقادات حادة بعد ذلك، إثرها فض اعتصاما أمام مقر القيادة العامة للجيش في يونيو 2019.
نظرة متغيرة
على الرغم من أن بعض الدول اعتادت الاستعانة بقواتها العسكرية لمواجهة الكوارث الطبيعية أو المخاطر الداخلية الهائلة، فإن انتشار الجيوش داخل البلاد لم يكن بالأمر اليسير، وظلت فكرة انتشار القوات العسكرية داخل حدود الديمقراطيات “نذير شؤم” بالنسبة إلى البعض.
لكن بحسب دراسة جديدة أعدها البرلمان الأوروبي عن انتشار القوات العسكرية في أنحاء العالم للمساعدة في احتواء فيروس كورونا، فإن هناك نظرة متغيرة تجاه تواجد القوات العسكرية في الشوارع المدنية، كما أن “الجهود الاستثنائية التي قامت بها دول العالم بالتعاون مع الجيوش، أثبتت أن الاستثمار في استعدادات الجيوش وتدريبها وإمدادها بالمعدات المتطورة، يمكن أن يؤتي ثماره في أوقات الأزمات ليس الخارجية وحسب وإنما الداخلية أيضا، باعتبار أن تلك الجيوش هي الأكثر قدرة على حماية المواطنين في مختلف السيناريوهات، بداية من فرض القيود الصارمة على مناطق بعينها أو بناء مستشفيات ميدانية في أسرع وقت أو المشاركة في عمليات إجلاء أو إسعاف المصابين والوفيات أو إجراء تحاليل سريعة للمواطنين للتأكد من خلوهم من الفيروس”.
وفي عام 2014، نشرت جامعة الدفاع الوطني الأميركية دراسة أعدها مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية السابق دنيس س. بلير، تحت عنوان “دعم الجيوش للديمقراطية”، أكد خلالها أن أغلب قادة الجيوش في مختلف الدول أصبحت لديهم قناعة راسخة بأن دعم الديكتاتوريات سيرتد عليهم ذات يوم، وهو ما يعني أن النظرة التقليدية السائدة بشأن التناقض بين اللباس العسكري والديمقراطية لم تعد قائمة حاليا، بل إن الجيوش أصبحت حاليا تلعب دورًا مختلفًا تمامًا إلى جانب المهام العسكرية التقليدية.
وبحسب بلير، فإن ذلك الدور يشمل دعم الديمقراطيات والانخراط في تقديم الدعم الصحي والاجتماعي ولعب دور مجتمعي إلى جانب السلطات المدنية في مختلف الدول. وقال بلير إن “تجربة الربيع العربي تحديدًا تشير إلى مدى أهمية الجيوش ومحوريتها في دعم مطالب الديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية”، وهي تجربة برزت صحتها في مصر وتونس والجزائر على وجه الخصوص.
ومن بلد إلى آخر، تتعالى المطالب بأن تكون الشعوب هي المُحدد الرئيسي لعلاقات الجيوش بالخدمات المدنية، وفقًا للأطر القانونية والدستورية، لا سيما وأن بعض المنظومات المدنية في الدول غير المتطورة ضعيفة، وتفتقر إلى الهيكلية والخبرة والرؤية الواضحة التي تمكنها من إدارة شؤون الدولة، ما جعل دور الجيوش أمرًا حاسمًا في الحفاظ على أمن الدولة وتماسكها، خاصة في الأزمات الكبرى، أياً كان شكلها.