ضرب من العبث أن تعيد تأكيد المؤكد لمريب أدمن التشكيك إلى حد الاجترار. فما عادت الاتهامات التي أكل عليها الدهر وشرب تقنع أحدا وإلا قامت الدنيا ولم تقعد كلما صاح أحدهم “خرق الدستور وانتهكت السيادة”. لا يا سادة، لم تمس الاتفاقية العسكرية الأخيرة بين الأردن وأمريكا – وطني الأول والثاني – لم تمس بسيادة الأردن. هذا ليس رأياً وإن كانت هذه السطور تنشر تحت زاوية – مقالات الرأي – هذا توصيف “صحفي” تقريريّ لما حرصت على دراسته في النصين العربي والإنكليزي “المتساويين” أمام التقاضي – إن اقتضت الأمور- للاتفاقية التي نشرتها الصحيفة الرسمية في الأردن بواقع 16 صفحة.
لن أخوض في تفاصيل الاتفاقية لكن أوجز “الضجة” التي أثارها البعض بأربع نقاط: دستورية الاتفاقية، مسوغاتها، نتائجها وسياقها.
وأبدأ بتلك الأخيرة، فسياق اتفاقية ٢٠٢١ يؤكد اتفاقا سابقا سنة ١٩٩٦حول وضع القوات الأمريكية في الأردن. لا جديد سوى التأكيد على مسوغات الاتفاقيتين وما تخللهما من ثلاث مذكرات تفاهم عكست الحاجة إلى مواكبة التطورات لعلاقة أرسى قواعدها الراحل العظيم الحسين بن طلال بدأت في خمسينيات القرن الماضي بصداقة تحولت عبر العقود إلى شراكة فتحالف بكل ما تعنيه الكلمة من معان متضافرة لا تقف عند العلاقات العسكرية والأمنية وإنما تشمل البعدين الاقتصادي والاجتماعي أيضا. استقرار الأردن كبلد فرض عليه وضعه الجيوسياسي ظروفا سياسية واقتصادية ضاغطة، كان دائما حجر الزاوية في تلك العلاقة بحيث لا يحمّل فوق طاقته في علاقات الشراكة والتحالف. لعل من أقوى الأمثلة كان قرار الأردن دخول حرب ١٩٦٧ وخسارته الضفة الغربية بما فيها القدس رغم معرفته الأكيدة والمسبقة بكلفة قرار المشاركة في الحرب. الأردن لم يملك يومها ما يعينه على تحمل تبعات الخروج عن “الإجماع” العربي الأهلي والرسمي بخوض “المعركة”.
في المقابل، وقف الأردن في وجه الصديق والشريك والحليف الأمريكي عندما رفض مشاركة قواته التي تشكل واشنطن أكبر الداعمين له دوليا في التحالف الذي قادته أمريكا لتحرير الكويت من القوات العراقية “المحتلة”. رغم أن تلك القوات “الغازية” كانت على مدى 8 أعوام، الترس والرمح الذي حمى ما سمي حينها “الجبهة الشرقية” للأمة لحمايتها من التوسعية الخمينية التي ازدادت للأسف شراستها وكما حذر الأردن، بعد إسقاط نظام صدام وحل الجيش العراقي – أقدم جيوش الدول العربية– هيمنة نظام ملالي طهران بلغت في عهد خامنئي مراحل نرى نتائجها في 4 دول عربية. ويبدو جليا أن الغاية الأساسية في الاتفاقية الجديدة هي تفعيل التحالف الأردني الأمريكي في إطاره الدولي في خوض المعركتين معا: محاربة الإرهاب والتصدي لدور إيران “الخبيث” في زعزعة استقرار الشرق الأوسط ومنعه من امتلاك سلاح نووي.
الاتفاقية لم تضف جديدا على ما سبقه فيما يخص مسألة السيادة فتلك كلمة تم تأكيدها وإعادة تأكيدها في جميع النصوص القانونية التي واكبت تطور علاقة الصداقة، فالشراكة، فالتحالف بين البلدين، تحالف لم يصل بعد إلى مستوى عضوية الناتو لكنه بالتأكيد نال ثمار الكثير من تلك العضوية دون أي يثقل عاتق الأردن بتبعات العضوية الكاملة في حلف شمال الأطلسي التي قد تحد من حرية حركته أو تهدد استقراره.
لعل من واجب القائمين على الإعلام على الأقل في جانبه الرسمي تبني ما أسميه الاستباقية في الشفافية. ندرك أن للأمور الأمنية والعسكرية استثناءاتها فيما يخص واجب التكتم ونشر ما يمكن نشره في أوانه، لكن تاريخا مريرا من انعدام الثقة داخليا والريبة خارجيا خيّم على الشرق الأوسط لعقود مما يستلزم مواجهة الآراء والانطباعات “القطعية والمسبقة” لبعض القوى السياسية بضخ مدروس بعناية للمعلومات والحقائق التي تسقط الذرائع المتربصة للانقضاض على الرأي العام في كل شيء!
المحب للأردن ولأمريكا ولاستقرار الشرق الأوسط يفرح للإنجاز الذي تم. هذه الصداقة، الشراكة، التحالف جدير بالرعاية والدعم الشعبي في المقام الأول..