بناء الذات السنية وصياغة الخطاب الوطني
مقال للصحفي : وسـام رشـيد الغـزي
منذ بداية العملية السياسية عام 2003 لم يتبلور محور موحَّد تجتمع حوله الاتجاهات السياسية والاجتماعية الممثلة للمكون السُني في العراق، وكان ذلك سبباً في اختراق النسيج الاجتماعي، وضعف القرار السياسي، وعدم قدرة القيادات (المتعددة) على التعاطي مع المحاور الأخرى في الشمال والجنوب بشكل إيجابي يخدم مصالحهم.
وعلى الرغم من محاولات أسامة النجيفي لـ لملمة شتات (القيادات) المنتشرة نتيجة تشضيها، والتي فشلت بسبب عوامل عديدة، أهمها شيطنة بعض تلك المحاولات إعلامياً؛ إذ اتهمت من قبل الشارع السني بارتباطها بمشروع إقليمي (تركي)، ولم تكن تمثل الإرادة الشعبية للمناطق السنية، التي تحاول النأي بنفسها عن ذلك التوجه.
واستمرت بعض الخطوات اللاحقة على الصعيد العشائري في المناطق الغربية تحديداً، ومحاولة الشيخ أحمد أبو ريشة، الذي اصطدم بقوى الإرهاب، ليقضي نحبه شهيداً، وتبعها، على المستوى السياسي، محاولة استغلال كيان رئاسة البرلمان، وهيمنة الحزب الإسلامي متمثلاً بسليم الجبوري، وجميع تلك المحاولات لم ترى النور بسبب عدم إجماع شعبي سني.
وبعد انتخابات عام 2018، والواقع الجديد الذي أفرزه عزوف غالبية الشعب العراقي عن المشاركة فيها وفي جميع المناطق، كان لابّد من تغيير جذري بنمط التفكير والأداء، وهذا ما يستوجب خلق قيادات تتنكر لسلوكيات وكاريزما الأشخاص اللذين فشلوا سابقاً في جميع المحافل، إذ فرض الواقع معادلة جديدة، وجدية، لبناء كيّان قيادي يكتسب شرعيتهُ من الغالبية غير المشاركين في الانتخابات، وهم الفئة المعارضة لكل خطوات التي تمّت في الحقبة السابقة.
وفي هذه الفترة الفاصلة بين الأداء التقليدي المتراخي ومتطلبات المرحلة، برز محمد الحلبوسي عبر خطاب يتناغم وتطلعات الشباب، في سابقة لم يألفها الأفق الإعلامي والسياسي لعشرات السنين، إذ تحدث الحلبوسي عن حقائق، وهواجس، ومُسلَّمات، كانت محظورة على من تزعم المشهد السياسي، ولا زال تأثير حديثه عن (الدرس الأول في السياسية) على قناة الشرقية الفضائية، يثير الغبطة للكثير من المنافسين الذين عجزوا مراراً عن مواجهة الحقيقة.
من(الدرس الأول)، الى (اللبنة الأولى)، الى بناء الأنبار المحررة للتو من داعش، الى وملائمة نبض المواطن، والتركيز على التمثيل من خارج المكوّن، وبناء جسور الثقة، والتعامل مع توجهات سياسية وفكرية واجتماعية عراقية من مختلف المناطق العراقية، لم تكُن حاضرة في المشهد السني، لأنها كانت حكراً لحركات وأحزاب استطاعت، ولسنين طويلة، قطع الطريق أمام أي محاولة جدّية للشراكة، وبلورة مفهوم يتفق مع مبادئ المواطنة.
وبعد سلسلة من الأحداث عصفت بالبلاد بشكلٍ خاص والمنطقة بشكلٍ عام، وأهمها ثورة تشرين التي وضعت جميع رموز الطبقة السياسية في خانة من العُزلة، والاستبعاد، فضلاً عن الاتهام بأنهم أحد أهم أسباب الأزمات التي عصفت بالبلاد في مختلف القطاعات، وأسست لجيل جديد يحمل تطلعات وجود وطن، يكون الإطار الوحيد الذي يجتمع عنده العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، والعرقية. وضمن هذا الحراك العاصف، لم يكن الحلبوسي مُحرجاً في طرح نفسه مشاركاً سياسياً، وممثلاً عن مناطق دفعت ثمناً باهضاً لسياسات الكتل والأحزاب.
وأستطاع أن يكون عنصراً فعالاً في التهدئة، ومفاوضاً رئيساً جمعَ مقومات القدرات السياسية السنية، وحوّلها الى أدوات وطنية ناجحة، إلا أن اللعبة السياسية في العراق تتعارض في أغلب توجهاتها مع ميل الشعب العراقي نحو بناء دولة عصرية، ونبذ المحاصصة، ومبدأ تقسيم السلطة، والمال، وفق خارطة حزبية فئوية، تأخذ بنظر الاعتبار مصالح بناء مراكز القوى، لا بناء مؤسسات.
ويبدو إن الحلبوسي أصبح عائقاً في تنفيذ بعض برامج الأحزاب الشيعية، وتحت شعارات وطنية كما في كل مرة تساندها بعض القوى السنية الخاسرة لمناطق نفوذها ومساحات شعبيتها، بدأت تحركات فعلية، بالتلويح لعزل الحلبوسي عن رئاسة البرلمان، إلا أنها لم تلاقي تأييداً واسعاً من باقي القوى السياسية المنشغلة بـ لملمة شتاتها، بعد سلسلة من الضربات الموجعة التي وجهتها لهم جموع المواطنين في ساحات الاحتجاج.
يجب أن يدرك الجميع إن العملية السياسة في العراق تمرُّ بأخطر مراحل وجودها، والأيام القادمة ستكون بلا شك حٌبلى بالكثير من الأزمات التي قد تودي بالبلاد إلى ما لا يُحمد عُقباه، وكما هو واضح فإن مجسات القوى والأحزاب الحاكمة لا تستشعر تلك الخطورة إلا بعد وقوع الخرّاب، كما هو الحال في كل الأزمات التي مرّت بالبلاد. إن الخاصرة السنية (الرخوة) لأكثر من سبعة عشر عاماً، أصبحت قوية بعد فشل السياسات السابقة، وإن شباب الوطن، بكل بقاعه، ينظر لخطاب وطني، بنّاء، وبإيقاع سريع ومؤثر، وبحسابات تفرض مبدأ المواطنة على كل المعطيات السابقة واللاحقة.