لنفترض صدق الجميع وأنهم خرجوا جميعا منتصرين في آخر مواجهة دامية. حمدا لله على سلامة من بقي على قيد الحياة من المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين وألهم ربنا – رب العالمين – صانعي السلام من الطرفين ومن يقف معهما سبل السلام فهي أكثر أمنا وكرامة للإنسان كما علمنا تاريخ الإنسان على هذه المعمورة.
أقول لنفترض لأن ما خرج من تصريحات رسمية وأخرى تفاعلية جماهيرية يشي بالكثير عن حقيقة وجذور هذه المواجهات المتكررة وعلى الجبهات كافة بما فيها لبنان وسوريا وإيران. لم تكن القضية يوما وطنية أو دينة أو سياسية فقط وإنما تركيبة تراكمية عميقة معقدة من الدوافع الاقتصادية الاجتماعية والروافد الدينية والأيدولوجية والسياسية. من نكبة إلى نكسة إلى ما تندر كثيرون عنها بأنها “وكسة” باللهجة المصرية تشبيها بما هو أقرب إلى خيبات أمل محتملة وبودّ!
لكن جميع أولئك المنتصرين، لا يملكون ترف إنكار البعد الإيراني والأثر التحريضي للمتطرفين من الجهات كافة ولكل مآربه الخاصة. من المحزن و-الصادم لتكراره العنيد- ذلك التوظيف لكل مواجهة على المستويات الداخلية، الإقليمية وحتى الدولية. مجرد استعراض برقي لما جرى في 11 يوما من المواجهة وحتى منذ بدايات التوتر في حي الشيخ جراح يظهر كيفية انزلاق التوتر إلى حد الصدام بما يؤشر بأصابع البحث ولا أقول الاتهام إلى كل من انخرطوا أو استدرجوا لهذه المواجهة التي بدأت بما قيل إنه نزاع قضائي بين أربع أسر تقطن منازل في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية.
كما كل مرة، وعيد وتصعيد ينتهي بتدخل طرف ثالث وغالبا ما يكون مصريا، أردنيا وعربيا عموما أو أوروبيا لوقف القتال باتفاقات تتدرج بين وقف إطلاق النار، إلى الهدنة مرورا بما يسمى التهدئة وهو مصطلح أمني فني مقارب لما يعرف بمناطق تخفيض التصعيد هناك في سوريا! والعجيب أن من يرعون تلك الاتفاقيات لديهم حلفاء على جانبي النزاع الأساسي – الجوهري وهو الفلسطيني الإسرائيلي يقومون بأدوار يحار فيها اللبيب.
في المقابل، لا يسلم حتى الداخل الأمريكي من هذه الازدواجية المقلقة وإن كانت مفهومة، فما تقوم به “فرقة” (سكواد) النائبات الديمقراطيات اليساريات وبخاصة عضوتي مجلس النواب من أصل فلسطيني رشيدة طليب والصومالي إلهان (ألحان) عمر، لا ينسجم على الإطلاق في جوهر ما يؤمن به الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يوفد وزير خارجيته أنتوني بلينكن في مهمته الأولى إلى الشرق الأوسط كوزير للخارجية للبناء على “إعلان وقف إطلاق النار” بين إسرائيل وحماس برعاية مصر التي استهدف أمنها في الصميم قبل بضع سنوات بالتنظيم ذاته وبمن يرعاه إقليميا وعالميا.
مهمة صعبة بانتظار بلنكن يوم الأربعاء حتى في ظل ما وصف برئاسة أوباما الثالثة، كون ما يواجه من عراقيل ما زال في جوهره ما حاول التصدي له الرئيس السابق دونالد ترامب. بايدن قالها بوضوح في كلمته ومن بعد في مؤتمر صحفي، لا حل سوى “رؤية الدولتين ودون اعتراف حقيقي لا مواربة فيه بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية”. بايدن في هذا الإطار ورغم انتقاده لترامب ظل متمسكا بقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس كعاصمة “موحدة وأبدية” لإسرائيل. ظل متمسكا أيضا بالاتفاقات الإبراهيمية التي أصر المتحدث باسم الخارجية نيد برايس بتسميتها باتفاقات التطبيع، تلك الكلمة التي جاهر إسماعيل هنية في معرض شكره لإيران من فندقه الأثير في الدوحة أن “انتصار” حماس الأخير كان أيضا على “التطبيع” العربي.
بلنكن سيتوجه إلى رام الله وليس غزة وستشمل جولته بعد إسرائيل كلا من مصر والأردن، لعل في ذلك توضيح لمآلات الأمور، وكل “انتصارات” والجمع بخير!