البزاز وضع اشارات منع مرور للطائفية والاثنية والنوازع والاهداف الشخصية التي تتعارض مع مصلحة المجتمع.
من جديد، تطل علينا ذكرى عيد الصحافة العراقية، وقد كتبتُ الكثير بهذه المناسبة، منذ حزيران/يونيو سنة 1969، كما كتبت عن العديد من الزملاء ايضا، لكني، تحاشيت الكتابة، عن نجم مضيء في سماء الصحافة العراقية هو الزميل والاخ الاستاذ سعد البزاز، مؤسس عروس الاعلام العراقي صحيفة “الزمان” وقناتي “الشرقية” الام، و”الشرقية نيوز” واسباب ذلك هي معرفتي بنكران الذات التي تسكن نفسية البزاز، وايضا من تبعات رذاذ ضعاف النفوس الذين يملأ صدورهم شك مسموم.
بداية، اقول.. لقد سألني كثيرون، هل ان تواصلك ومحبتك لصحيفة “الزمان” ومؤسسها، موضوعية ام ذاتية؟ وكنت اجيبهم “ان الذاتي والموضوعي اختلط عندي مسجلا نسيجا واحدا، موحداً” ففي خانة “الذاتية” اتكأت مستريحة صورة المحبة والتواصل مع مؤسسها الصديق الاستاذ سعد البزاز الذي لم تبعده المسافات عن المتابعة والسؤال، والحال نفسه مع صديق عمري د. احمد عبدالمجيد، رئيس تحرير طبعة العراق، الذي ذابت في سني علاقتنا ذات العقود الاربعة الماضيات عبارة “السراء والضراء” واصبح التواصل شبه اليومي بيننا عنوانا يعرفه الصحفيون والاصدقاء!
اما “الموضوعية” فحال مهني يستحق الاشارة اليه، فقد وجدتُ ان الاعلام الذي اسسه البزاز، يعتز بالجذور الثقافية العربية والانسانية في مسارها، ويسعى لتنميتها وتحديثها، ويؤمن بحرية الإنسان في التفكير والتعبير والاطلاع ويدافع عنها، ويحترم الرأي الآخر ويبحث عنه، ويرى في الحوار وسيلة لاستيلاد الأفكار وتنميتها.
لقد ادرك ابا الطيب، البزاز، بحسه الاعلامي المعروف، الذي توجه بمشروعه الكبير (قناة الشرقية الام، وقناة الشرقية نيوز) ان الصمت يتحرك اسرع حين يمضي الى الخلف، لذلك لم يدر رأسه الى الخلف ابداً، وظل طوده الاعلامي شامخاً الى امام، يسير جنبا الى جنب مع مسؤولية التطور الذي بات سمة رئيسة له، لم يجامل على حساب الحقيقة، لأنه يعرف ان ذلك الامر مذموماً، ويحدث شرخا في علاقته بالمتلقي او القارئ، ويخل بتوازن التقييم باعتبار ان الاعلام سلطة رابعة، وهي لا تساوي بين الفعل الرصين في بناء المجتمع، والفعل الهادم لقيم الحياة، فالمساواة هنا يعد ظلما صريحا يربك المشهد العام للمؤسسات بمختلف تخصصاتها.
في توجهاته الاعلامية، التي باتت لغزا، حير “البعض” لم يرم رؤاه في فضاء الاعلام بسذاجة او كسل، فكل مادة اعلامية، تعرف موضعها وكل نقطة، كل فاصلة تعي دورها، وتأخذ مكانها المرسوم لها في الوجدان الاعلامي… فبقيت هذه التوجهات رائعة بكل شجنها وألوانها، لغة اعلامية، صادقة، مترفة الجمال.
حين يطالع المرء طروحات البزاز في الاعلام، تبرز امامه صورة متألقة للمهنية، حيث اساليب الاعلام الراقي، البعيد عن المبالغة، شعاره ابراز الحقيقة، دون الغوص في دهاليز الاثارة، فيها آراء شتى، تناقش مختلف مسائل الحياة… انه يرى الاعلام ضرورة حياتية ونفسية للمواطن، وارقى اشكال التعبير عن عمق الذات البشرية، هو السمو والرفعة، وفيه ومنه يكمن الدخول الى ملكوت البناء والرقي والجمال، بعيدا عن اسفاف الواقع واشكالياته، وكأني بالبزاز رسم برؤاه تفاصيل وطن زرع في متابعيه زهور محبة في بساتين إبداع وواحات عواطف.
ومن خلال قربي ومتابعتي للإنسان والاعلامي “ابو الطيب” وجدته وضع اشارات منع مرور، للطائفية والاثنية والنوازع والاهداف الشخصية التي تتعارض مع مصلحة المجتمع، وتأكيده ضروري الاصغاء للرأي المختلف، وأخذه، ليس على محمل التجريح، بل على محمل النقد المسلح بمنطق علمي، والابداع عنده عمل تواصلي يفرض وجود طرف آخر للتلقي..وهذه حالة تفرد بها في جو الاعلام.. وقد رفض البزاز ان يكون الاعلام جسدا بلا روح، ولم يشتته الصمت ويبعثره الخوف، رغم السنوات العجاف التي ارغمت كثيرين على المغادرة الى كهوف الأمان او الجلوس بين حيطان الحراسة، فبقت نظريته الاعلامية ترضع من شمس الطبيعة، حليب الشجاعة والارادة، مؤمنة بالقدر وبمشيئة الله، واعلن رهانه على محبة المتابعين، وفاز بالرهان.
ان المهنية الاعلامية التي يسعى البزاز الى تكريسها، لا حدود لها.. تخومها عند السماء واذيالها عند اخر موجة تتكسر لنهر دفاق تحبسه السدود، والكلمة عنده، بعبقرية بنائها وعظمة محتواها قادرة على التعبير عن الحالة الانسانية خارج حدود الزمان والمكان لكونها اصيلة وحديثة في ذات الوقت..والاعلام الحق، هو النسغ الذي يبقي شجرة المجتمع يانعة، وبدونها تجف وتصبح حطباً، وهو الذي يعطي الطراوة والنضارة والحياة لشجر الناس… هو الثقافة المجتمعية التي تضيء، وتخلق المناعة والحصانة.
وفي، ختام كلمتي التي اكتبها بحق البزاز الكبير لأول مرة، قبل ان يفوتني قطار العمر، أهنئ في عيد الصحافة العراقية كل من عملت معه، او عمل معي والزميلات والزملاء كافة. فالإعلام عموما، هو الذي يبقينا حراساً للحلم والثوابت والحقوق التاريخية، وهو الذي يميزنا عن باقي المخلوقات، وهو الذاكرة والفعل، والمحرك!