أغرب شيء في سقوط الملكية المصرية في صيف 1952 كان سهولة وسرعة انهيار حكم عائلة محمد علي باشا. العائلة حكمت مصر 150 عامًا كانت فيهم، خاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر، المَلَكية الأغنى والأشهر في كل المنطقة من الخليج إلى شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي. لكن في 23 يوليو 1952، مع تحرك محدود لوحدات من الجيش المصري استطاعت السيطرة فقط على مركز القيادة المسلحة وعلى الإذاعة المصرية، بدا أن القصر قد شُل، ليس فقط غير قادر على مواجهة ما يحدث، ولكن أيضًا كما لو كان لا يريد التفكير في كيفية مواجهة ما يحدث.
هناك جملة شهيرة في رواية سجين زندا، تقول إن السماء لا تختار دائمًا أفضل الرجال ملوكًا. لكن، ربما، بعض الرجال والنساء يصلون إلى القمة لكي ينهاروا لأن في انهيارهم تحقيق لمصير تكونت مقدماته على مدى عقود، وجاء هؤلاء الأشخاص ليكونوا رموزًا لحصاد نتاج طويل من المشاكل والأزمات، تراكمت فإذا بها تهوي بالهياكل التي تكونت فيها.
الملك فاروق واحد من تلك الشخصيات في التاريخ التي يسهُل إدانتها بالعديد من الأخطاء والخطايا، ولكن أيضًا التي يصعُب عدم التعاطف معها. قراءة أوراق خاصة كتبها بعض من عرفوا فاروق بعيدًا عن السياسة وعن قرب شديد – والكثير من هذه الأوراق لم ينشر بعد – تدلنا على مواطن آلام عديدة، وبعضها كان غائصا في أعماق وجدان الرجل.
هناك قول منسوب إلى فاروق أن في المستقبل القريب لن يبقى في العالم إلا ملوك الكوتشينة الأربعة وملك بريطانيا. والدلالة أنه اعتقد بزوال ملكه وحكم عائلته قبل أي انقلاب عليه أو تحرك جدي ضده.
بعض من تعاملوا مع فاروق قالوا إنه، بالرغم مما كان يبدوا عليه من عدم تركيز ورفض للاستماع، كان شديد الذكاء – ذكاء فطري، لكنه نما من خلال طفولة صعبة وسنوات مراهقة جُرحت فيها شخصيته مرة وراء أخرى، وتلك تجارب تترك ندوبًا لا تلتئم، لكنها أيضًا تشحذ الذكاء.
فاروق رأى قبل أن يرى غيره أن ملكه ذاهب. ولعله اقتنع أن ذلك هو الاتجاه الطبيعي لتطور حركة المجتمع في مصر. الرجل رأى الضعف الشديد الذي حل بكل مؤسسات الحكم في مصر في نهايات الأربعينات وبدايات الخمسينات، بما في ذلك أهم الأحزاب التي طالما مثلت الطبقات الأوسع في المجتمع.
فاروق رأى أيضًا التغيرات الكبرى التي حدثت في الاقتصاد المصري نتيجة الحرب العالمية الثانية والتي كانت مصر واحدة من أهم مسارحها. وقد كان من نتيجة ذلك أن ظهر في مصر اقتصاد حرب كان فيه من الفساد والاستغلال ما كان فيه من تضخم مهول. اقتصاد الحرب خلق ثروات كبرى في سنوات قليلة، وقد تركزت أهم هذه الثروات في مجموعات تجارية كانت وقتها بعيدة تمامًا عن طبقة كبار ملاك الأراضي التي حكمت الاقتصاد المصري لعقود منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. ذلك التغير في هيكل الثروة حمل معه مقدمات تغيرات كبرى في المجتمع المصري. وكانت تلك المقدمات حاملة من النذر ما جعل أكبر حركات المجتمع المدني في مصر وقتها – النقابات والجمعيات الأهلية ومجموعات الطلبة – في حالة قلق أو غضب أو مزيج من الاثنين.
ومع وقبل كل ذلك، كانت مصر تحت الحكم البريطاني فعليًا وإن لم يكن رسميًا. كما أن حركات مقاومة الاحتلال كانت إما شديدة الضعف (مثل المقاومة التي ظهرت في منطقة قناة السويس منذ بدايات الخمسينات) أو رمزية (مثل خطابات أغلب الأحزاب والحركات السياسية في البلد وقتها).
كان القادم مجهولًا ولكن ذا مواصفات تحدثت عنها تقارير الخارجية البريطانية والأمريكية في الشهور الأولى من 1952. كانت التوقعات تشير إلى حركة تعبر عن غضب مكبوت بدا يظهر على السطح. أغلب هذه التوقعات ذهبت إلى تصور انفجار شعبي يعصف بمظاهر الثراء في مصر، وتكون رمزية حركته إسقاط شرعية الوضع السياسي في مصر وقتها – وهي شرعية القصر.
تلك التوقعات كانت متأثرة بحريق القاهرة في يناير 1952، حيث احترقت مساحات واسعة في قلب القاهرة بلا أسباب واضحة، وبلا جان محدد (بالرغم من بعض شهادات تشير بقدر من الشك إلى قوى محددة في مصر وقتها). ولذلك، كانت التوقعات تذهب إلى احتمالية حركات عنف قد تصل إلى درجات من الدمار (مثل ذلك الذي حل بعاصمة البلد بسرعة في بدايات 1952 والذي بدا فيه أنه، بصرف النظر عمن أشعل الشرارة الأولى، فإن الشرارة تلاقت من حجم سخط مهول كان يريد أن يخرج من قمقم حُبِس فيه لفترة طويلة).
فاروق كان في قلب كل ذلك، يسمع عنه وربما يراه. وإذا صدقنا بعض من عرفوه عن قرب، فإنه أحس – بأدق كثيرًا من كل من كان في مصر وقتها – بأن هناك ما هو قادم سيُزيل ملكه – وربما كان شعوره أنه غير قادر على رد ما هو قادم، أو أنه كان في داخله لا يريد مقاومة ما هو قادم.
وربما أنه، وبعد سنوات كثيرة قضاها على العرش الذي اعتلاه وهو بعد لم يكمل عامه السادس عشر، فضل، بينه وبين نفسه، أن يذهب ملكه وتبقى ثروته وأن يعيش أيامه في رفاهية ومتع حسية، لعلها تُنمِل الآلام في وجدانه.
فاروق اختار – ربما في عمق وعيه قبل أن يكون بعقله – أن يذهب. لذلك من يتابع تصرفات فاروق بعد أن عرف بتحرك تلك الوحدات العسكرية يلمح بسرعة أن الرجل لم يكن يريد أن يصارع، لم يكن يريد الحفاظ على عرشه وعلى ملك عائلته.
مشهد الذهاب يكاد يكون لوحة درامية ملأ بالرموز. فاروق في بدلة بيضاء، المفروض أنها تمثل البحرية المصرية، ولكنها أيضًا دالة على السلام، على رفض الدماء والصراع من أجل العرش. ممثلو حركة الجيش التي أنهت حكمه تأخروا عن ميعاد خروجه من مصر، وأكبرهم سنًا، اللواء محمد نجيب يتحدث إلى فاروق – بأدب حسب أغلب من أتيح لهم الاستماع إلى شهادات جادة – ولكن بأسلوب من يمسك بمقاليد الأمور ويملك الأمر والنهي. طلقات المدفعية مدوية في الهواء، نظريًا توديعًا لملك مصر (الذي لتوه قد تنازل عن العرش لابنه نزولًا على تهديد الحركة العسكرية التي أنهت حكمه)، ولذلك فنفس طلقات المدفعية هي له إنذار ونذير. واليخت الذي يصعد عليه فاروق والذي سيأخذه خارج مصر هو اليخت نفسه الذي أخذ جده – الخديوي إسماعيل – إلى المنفى نفسه، جنوب إيطاليا. وبالطبع فإن فاروق كان يعلم ما جرى لجده في المنفى – في البداية، ومعه ماله وعزه، كان إسماعيل محط الأنظار ومحور الاهتمام حيثما حل، ومع مرور السنوات وقلة المال وضعف الصحة، فرُطت الصحبة وضاع الجاه وكان أن مات إسماعيل (الرائع كما سمته الصحف الفرنسية لسنين) وحيدًا مهمومًا.
وبالفعل فإن فاروق مات في سن الخامسة والأربعين بلا جاه ولا عز، بعد وجبة عشاء في مطعم في روما. وبالرغم من أن ابنه – أحمد فؤاد الثاني – هو رسميًا آخر ملوك مصر، إلا أن فاروق واقعيًا كان الملك الأخير، كان من انتهت على يديه دولة أسرة محمد علي – تلك الدولة التي صاغت في بداياتها، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شكل العالم العربي الجديد، كما سنرى في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.