لم أعلم سبب وضعنا في الحجر الصحي. طوّقت الشرطة المبنى وطلبت منّا البقاء داخله. هذا كلّ ما عرفناه،” قال لي الشاب حسن القادم من بنغلادش والبالغ من العمر 26 عامًا في أوّل لقاء معه في إطار تدخلات أطباء بلا حدود في منطقة رأس النبع في بيروت.
كانت المنظمة قد أطلقت للتوّ استجابة طبية سريعة في المنطقة بعدما تبيّن أنّ نتائج اختبار كوفيد-19 لأكثر من 70 عاملًا مهاجرًا، أغلبهم من الجالية البنغلادشية، في المبنى نفسه أتت كلّها إيجابية. كان حسن من بين هؤلاء العمال، وبدا قلقًا بطبيعة الحال. وشملت تدخلاتنا أيضًا المبنى الواقع في المقابل، حيث قطن عدد من العائلات السورية اللاجئة. وأتت نتائج اختبار كوفيد-19 سلبية لجميع سكّان هذا المبنى، ولكن تمّ إخضاعهم أيضًا للعزل كتدبير “أمني” إضافي.
منذ مارس/آذار 2020، قامت أطباء بلا حدود بعدّة أنشطة لمحاولة الاستجابة إلى مرض كوفيد-19 في لبنان. ودامت بعض التدخلات لفترات أطول من غيرها، وبعضها لا يزال طور التنفيذ، ولكننا نحرص دائمًا على توفير الأعداد اللازمة من الموظفين لنشر فرق الاستجابة الطبية عند الحاجة القصوى. وفي أواخر مايو/ أيار، فور ورودنا خبر رأس النبع، لم نتردّد في التوجه هناك، حيث إنّ التوعية والدعم الطبي هما في صميم استجابة أطبّاء بلا حدود في ظلّ جائحة كوفيد-19، وكنّا على يقين بأن سكّان هذين المبنيين كانوا يفتقرون إلى التوعية والدعم في ذلك الحين. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ قوى الأمن الداخلي طوّقوا المبنى لأيام عديدة، ما منع السكان من مغادرته أو مزاولة عملهم أو الحصول على الرعاية الصحية أو شراء المواد الغذائية أو المياه.
وبالاتفاق مع وزارة الصحة العامة، سارعت أطباء بلا حدود أيضاً إلى نشر فريقها الطبي لتجميع عيّنات عشوائية من مخالطين محتملين للعمال المهاجرين، في منطقة البسطةّ. أما المبنيان في منطقة رأس النبع، يقبعان في أحد شوارع بيروت الضيقة، وإذا نظرت إلى الداخل لرأيت مشهداً يبعث على الحزن والأسى. يتألّف المبنى الأول من 3 طوابق وكان يضمّ أكثر من 170 رجل، معظمهم يعمل في قطاع التنظيف في شركات مختلفة في لبنان. وشارك أكثر من 40 شخصًا شقة واحدة تفتقر إلى أدنى معايير التهوية والنظافة وتضمّ أسرة مكدسة فوق بعضها البعض.
اعتزمنا في بادئ الأمر تنظيم جلسة توعية صحية للأشخاص المعزولين حول كيفية الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، ولكننا اكتشفنا سريعًا أنّ مخاوف أخرى كانت تساورهم. كان الخوف يلوح في عينيهم تحت الضوء الخافت في شققهم، فقد أرادوا أن يعرفوا ما سيؤول إليه مصيرهم. ويذكر أن قبل أسبوع، تأكّدت إصابة أحد الرجال في المبنى بفيروس كورونا المستجد. قامت وزارة الصحة بتتبّع مخالطيه، وتم اجراء فحوصات لكلّ سكّان المبنى بدون إنذار مسبق. وتمّ تطبيق تدابير العزل الإلزامي على المصابين المؤكدين بالفيروس في المبنى. أمّا الأشخاص الذين أتت نتيجة فحوصاتهم سلبية، فتم حجرهم في فندق.
في لبنان، لا يوصى فقط بعزل العمال المهاجرين المؤكد إصابتهم بالفيروس، بل يجب تطبيق تدابير العزل على جميع المصابين، وذلك من أجل خفض وتيرة انتشار الفيروس. ولكن، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سكان المبنى أمثال حسن قد حُجروا بالقوّة من قِبل قوى الأمن بدون أي تفسير حول ما يجري أو حول حالتهم الصحية. فكان ينبغي إشعارهم حول ملفّهم الطبي بدلًا من منعهم من التجول بدون إعلامهم بالسبب. فهذا حق أساسي مكرّس للجميع.
وفي سياق تدخلاتنا، توجّه البعض إلينا بأسئلة حول كيفية وموعد انتهاء هذه المشكلة. وشرحنا لهم أنّ نتيجة فحوصاتهم أتت كلها إيجابية، ما لم يكن موضّحًا لهم حتى ذلك الحين. وتحدّثنا عن التدابير الوقائية التي يجب اتخاذها لمنع انتشار الفيروس أكثر، بما في ذلك ارتداء الكمامة بشكل متواصل، وغسل اليدين، والمحافظة على أبعد مسافة ممكنة بين بعضهم البعض، حتى في تلك المساحة الضيقة التي يتشاركونها. قاطعَنا أحدهم وقال، “ولكن ليس لدينا أي مياه، فكيف لنا أن نغسل أيدينا؟” شعرنا باليأس يختلج نفوسهم وأدركنا محنتهم، فسارعنا إلى طلب المساعدة من فريق الدعم النفسي ليتعاون مع فريق الرعاية الصحية.
دامت تدخلات فريقنا في المبنى 18 يومًا. ومع مرور الأيام، قامت عدّة جهات فاعلة بالتبرع بالمواد الغذائية والمياه لسكّان المبنى، منها الصليب الأحمر اللبناني والجوامع المجاورة. ولكن، طُلب من السكان استلام المواد الغذائية عن عتبة باب المبنى والعودة سريعًا إلى الداخل. “هيّا بسرعة، خُذ الطعام وعُد إلى الداخل”. هذا ما سمعه أحد سكّان المبنى، أودين، عندما خرج لاستلام الطعام.
بالإضافة إلى النقص في المواد الغذائية والماء والافتقار إلى معايير النظافة والاحتجاز في المبنى، عاش هؤلاء الرجال أيضًا في خوف دائم وكانوا عرضةً للوصمة الاجتماعية. خلال إحدى زياراتنا، تجمّع حشد من الناس في جانب الشارع، وكانوا يصرخون مطالبين بعودة العمال المهاجرين إلى بلد منشئهم.
وعلّق حسن على ذلك قائلًا، “سمعت صراخًا وعرفت أنّه صادر عن سكّان المنطقة. كانوا يتذمّرون من أنّنا نعيش بينهم.” رأيتُ تأثير هذه الاعتراضات على صحتهم النفسية، وكان ذلك باديًا على وجوه كلّ من حسن وسكّان المبنى الآخرين. فبالإضافة إلى خطر الإصابة بالفيروس والعيش في ظروف مزرية، واجهوا أيضًا رفض الناس لهم كلامًا وفعلًا.
ونظرًا لأنّهم عمال مهاجرون يعيشون في بلد غير بلد منشئهم، أصبحت الوصمة التي يحملونها كمصابين بالفيروس أسوأ بأضعاف. وحمل ذلك حسن على التساؤل ما إذا كان قدومه للعمل في لبنان فكرة سيئة. وقال في هذا السياق، “أنا شخصيًا أفضّل العودة إلى بنغلادش في هذه المرحلة”. وأردف أنّه زادت على مأساة الجائحة والعنصرية الأزمة الاقتصادية القائمة حاليًا في لبنان.
وقال في هذا الإطار، “في بلدي، قد أتمكّن على الأقل من ادّخار بعض المال. أمّا هنا، فلم يعد ذلك ممكنًا، ولا يسعني حتّى إرسال المال بالدولار الأمريكي إلى عائلتي في بنغلادش.” خسر راتبه 4 أضعاف قيمته الأصلية في غضون بضعة أشهر. ونظرًا إلى أنّ العمال المهاجرين كانوا في الأصل يواجهون صعوبة في الوصول إلى الرعاية الصحية، ازداد الأمر سوءًا مع بدء تدابير الحجر جراء انتشار فيروس كورونا المستجد وانهيار الوضع الاقتصادي. وارتفع أيضًا مستوى التمييز الذي يتعرضون له منذ بداية انتشار المرض. ولا تمثّل تدخلاتنا الأخيرة في رأس النبع سوى عيّنة صغيرة عن الوضع العام. إنّ الفيروس لا يميّز بين مهاجر ولاجئ ومواطن، وينبغي أن تتلاءم استجابتنا مع هذا الواقع بصفتنا أفرادًا في المجتمع وجهات فاعلة في المجال الإنساني. ولا يجوز أن يؤثّر الوضع الاجتماعي للفرد في لبنان على قدرته على الاطّلاع على وضعه الصحي والوصول إلى الرعاية الطبية اللازمة والحصول على العلاج الملائم.