موناكو.. إحدى أصغر دول العالم وأكثرها ثراءً. هذه الإمارة الصغيرة تجاور مدينة نيس الفرنسية وتبعد أميالًا قليلة عن الحدود الإيطالية، ويبلغ عدد سكانها حوالي 38 ألف نسمة..7 من كل 10 منهم صنّفوا من أصحاب الملايين.
هذا ما ورد في تقرير صادر عن المستشارين العقاريين نايت فرانك (Knight Frank)، الذي أشار أيضًا إلى أنّ 199 شخصًا بالحد الأدنى، يملكون أصولًا توازي قيمة 30 مليون دولار.
وعدد أصحاب الملايين والمليارات المقيمين في موناكو يزداد. بينهم الوريثة ومصمّمة الأزياء تاتيانا سانتو دومينغو، التي تبلغ ثروتها الصافية حوالي 2 مليار دولار، والتي صُنّفت أغنى مقيمة في موناكو، عام 2019.
ربما تكون عائلة غريمالدي الملكية التي تحكم الإمارة منذ ثمانية قرون، برئاسة الأمير ألبير الثاني، نجل الأمير رينييه والممثلة الهوليوودية غريس كيلي، أشهر مواطني الإمارة، لكنّ دومينغو تزوّجت من ابن شقيقة الأمير ألبير، أندريا كاسيراجي.
إذن ما الشعور الذي ينتابك عندما تعيش على أرض أصحاب المليارات؟
أسلوب حياة ساحر
وقالت رائدة الأعمال التقنية الإيطالية مانيلا دي جيوفاني، التي تعيش في هذه الدولة الصغيرة منذ عام 2018، إنها حين أتت إلى موناكو كطالبة كان لديها “الأفكار المسبقة المعتادة”، ووجدت صعوبة بـ”التأقلم”.
ووصفت “البيئة بأنها تتمتّع بـ”خصوصية كبيرة”. وأردفت أنه “إذا لم تكن جزءًا منها، فسيستغرق منك الأمر وقتًا كي تتكيف داخل المجتمع الفعلي. كان الأمر صعبًا للغاية في سنواتي الأولى”.
ومع ذلك، قالت دي جيوفاني، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لمنصة الواقع الافتراضي DWorld، إنها وجدت الأمور أسهل بمجرد تخرجها من الجامعة وشروعها بتأسيس حياتها المهنية، وهي تشعر بالراحة في منزلها بموناكو الآن.
وأضافت: “أعتقد أن موناكو تمثّل مركزًا للفرص”، لافتة إلى أنه “رغم حقيقة أنها بلد صغير نسبيًا، فإن كل شخص من جميع أنحاء العالم له تأثير ما، يزور موناكو مرة واحدة سنويًا في الحد الأدنى”.
وتابعت: “لذا إذا اندمجت في النظام، يمكنك أن تطوّر بسرعة كبيرة”.
تحب مارسيلا دي كيرن روير، المقيمة في موناكو، والتي تعود أصولها إلى غواتيمالا، أسلوب الحياة هنا، مؤكدة أن العيش بين الكثير من الأثرياء والناجحين جدًا، يساعدها للحفاظ على دوافعها.
ولفتت دي كيرن روير، مؤلفة كتاب “The Superyacht Industry Book” ومستشارة اليخوت الفاخرة لدى شركة الاستشارات Onboard Monaco: “أحيانًا لا ترغبين بمغادرة المنزل من دون وضع مكياج لأن ستشعرين أنك لا تتمتعين بالمظهر اللائق”.
الأماكن محدودة
بطبيعة الحال، فإن الحصول على عنوان في موناكو لأمر مكلف للغاية. وورد في تقرير عام 2022، الصادر عن شركة العقارات العالمية سفاليس Savills ، أن متوسط الأسعار في الإمارة تجاوز 50 ألف يورو (70500 دولار) للمتر المربع، لأول مرة في العام الماضي، ما يمثل زيادة بنسبة 9٪ عن عام 2020، في حين بلغ متوسط أسعار الإيجارات 91.08 يورو. لكل متر مربع شهريًا.
وقال إدوارد دو ماليه مورغان، رئيس المبيعات السكنية الدولية الفائقة في نايت فرانك: “لطالما كانت (العقارات في موناكو) الأغلى في العالم لفترة طويلة حقًا”.
وتابع: “نظرًا لوجود 38 ألف نسمة يعيشون في 2.2 كيلومتر مربع، تعتبر المنطقة مكتظة بالسكان والأثرياء على نحو يصعب تصديقه، فيما تستمر أسعار العقارات بالارتفاع”.
ونظرًا لمحدودية المساحة، فإنّ مساحة المنازل أصغر ممّا تتوقع.
وتابع دو ماليه مورغان: “تمثل الشقق فيها بين 98 و99٪، فيما تقع على عدد قليل من الفيلات، ومن الواضح أنك ستدفع قسطًا كبيرًا مقابلها”.
وتعتبر دي كيرن روير، التي انتقلت إلى موناكو منذ حوالي 17 عامًا، أن حجم العقارات “مقايضة” للعيش في مثل هذا البلد الفريد والجذاب.
ولفتت إلى أن “الأمر لا يشبه العيش في بيفرلي هيلز حيث توجد قصور كبيرة”، مشيرة إلى أنه “بالنسبة لقيمة قصر في بيفرلي هيلز، ستمتلك هنا شقة صغيرة. إن الحياة مكلفة في موناكو، لكنها تستحق العناء حفاظًا على خصوصيتك وسلامتك”.
نسبة جرائم منخفضة
يبدو أن مسألة السلامة تشكل عاملًا مهمًا عندما يتعلق الأمر باستحسان هذا البلد الصغير، الذي يتميز بمعدل جريمة منخفض جدًا، وبعدد كبير من رجال الشرطة مقارنة مع عدد السكان.
وتضيف دي كيرن روير: “أعتقد أن موناكو هي إحدى الأماكن القليلة في العالم التي يشعر فيها الناس بالأمان. فلا داعي للقلق من أن تتعرّض للسرقة”.
وتابعت: “راهنًا، في أماكن أخرى من العالم أصبح الوضع خطيرًا للغاية. لا يريد الناس ارتداء ساعاتهم، فيما نشعر بالأمان هنا”.
أما المصورة فالنتينا سيلفاجيا دي غاسباري، التي أمضت الصيف في الإمارة خلال سنوات شبابها، وأقامت فيها مدة 14 عامًا، إن السلامة لعبت دورًا كبيرًا بأخذها قرار تربية طفليها في موناكو.
وأوضحت: “الجميع يعرف موناكو من خلال الأحداث الرياضية الكبرى، من خلال أصحاب المليارات الذين يعيشون فيها، وهذه الحياة الليلية الرائعة مع السيدات الجميلات”.
لكنها أردفت: “أود القول إن الأمن يشكل أحد أكثر الأمور التي لا تصدق”، مشيرة إلى أن بعض السكان يتركون أبواب سياراتهم مفتوحة.
لكي تصبح مقيماً، يجب على المتقدمين استئجار أو شراء عقار هنا، وإيداع ما لا يقل عن 500 ألف يورو في بنك مسجل في موناكو.
لقد مرت كل من دي جيوفاني ودي كيرن روير ودي غاسباري بمراحل الحصول على الإقامة، لكن من غير المرجح أن يتم منحهن جنسية موناكو.
تنص القواعد الحكومية على أنه يمكن للمقيمين التقدم بطلب الحصول على الجنسية بعد عيشهم في الإمارة لمدة عقد في الحد الأدنى.
لكن، يجب أن يوافق الأمير ألبير الثاني على كل طلب، وتعطى الجنسية لعدد قليل فقط من الأشخاص سنويًا.
وقالت دي كيرن روير: “ولدت ابنتي هنا ولا تملك جواز سفر من موناكو”. وتابعت”يكاد يكون من المستحيل الحصول على واحد. إنهم يصدرون نحو خمسة جوازات فقط في السنة”.
وأردفت: “لذا حتى لو تزوجت من موناكو، فلن أحمل جنسيتها. إنهم يحافظون عليها محمية للغاية”.
ملاذ الضرائب
في الواقع، تشير التقديرات إلى أن حوالي 8000 شخص يعيشون في موناكو هم مواطنين. والأخيرون يتمتعون بامتيازات قليلة مثل سكن مدعوم، وفرصة عمل مضمونة
وقالت دي غاسباري إن “أهل موناكو صنعوها”. هناك العديد من المزايا إن كنت مواطنًا، وهذا أمر عادل لأن أي بلد يحتاج إلى مواطنيه.
وأشارت إلى أنه “إذا لم تساعدهم الإمارة، فلن يكونوا قادرين على العيش في موناكو. معظمهم ليسوا من أصحاب المليارات. إنهم أناس عاديون. وهم من يديرون البلاد”. وأضافت دي غاسباري إلى أن هناك تباينًا كبيرًا بين مواطني موناكو والأشخاص الذين ينتقلون إليها.
يدفع المواطنون أقل من ثلث قيمة الإيجار في السوق، وتدفع الدولة الباقي. لكن ربما يكون من العدل الافتراض أن متوسط الراتب للمواطن الذي يعمل في الحكومة سيكون أقل بكثير من متوسط راتب المواطن الذي انتقل إلى الإمارة لأغراض ضريبية، ما يعني أن الزيادة في أسعار العقارات كان لها أثر كبير.
في السنوات الأخيرة، عمل الأمير ألبير الثاني على زيادة توفير العقارات المؤجرة بأسعار معقولة لموناكو، من خلال خطة إسكان وطنية مدتها 15 عامًا تهدف إلى زيادة عدد الشقق المملوكة للدولة بنسبة 43٪.
وقال الملك في بيان رسمي “بالنسبة لي، الإسكان في موناكو قضية وطنية وأولوية مطلقة”. “إنه شيء تعمل عليه حكومتي باستمرار منذ سنوات عديدة”.
وفي حين لا يتمتع المقيم بالمزايا التي يتمتع بها المواطنون، فإن الحصول على الإقامة هنا له بالتأكيد امتيازاته، لأنهم يستفيدون من نظام ضريبة الدخل وضريبة الثروة الصفري في موناكو.
وقال دو ماليه مورغان: “بشكل أساسي، هذا سبب انتقالك إلى موناكو. لأنها بيئة ذات عتبة ضريبية منخفضة. إنها أعمال احترافية للغاية”.
وهل صدفة أن تكون موناكو موطنًا لعدد من سائقي الفورمولا 1، ضمنا ماكس فيرستابن، ولويس هاميلتون، وتشارلز لي كليرك (المولود في الإمارة)، ولاندو نوريس، الذي أوضح أنه اختار الانتقال إلى هذه الوجهة بسبب الفوائد المالية، مشيرا إلى أن “الناس يفعلون أمورًا كثيرة في الحياة مقابل المال”.
ورغم ذلك، في حين أن العيش في موناكو قد يكون منطقيًا من الناحية المالية لأولئك الذين هم أثرياء مثل نوريس، تشير دي كيرن روير إلى أنّه “فقط إذا كنت ثرية حقًا، منطقي أن تعيش هنا بسبب الضرائب”. “بالنسبة للآخرين، هذا غير منطقي، لأن الإيجار مرتفع جدًا.
وتابع: “يعتقد الناس أنني هنا بسبب الضرائب. لكن هذا ليس صحيحًا. موناكو أسهل جدا بالنسبة لهجرة أصحاب الأعمال، ورجال الأعمال، واعمال الريادة الرقمية الرحّل، مقارنة مع فرنسا على سبيل المثال”.
الحياة العائلية
تعتبر دي كورن روير التنوع في البلاد غاية في الأهمية، فموناكو هي موطن لما لا يقل عن 139 جنسية، ما يخولها أن تكون بين أكبر نقاط بيع في العالم، إلى جانب الحس المجتمعي.
وقالت: “رغم صغر حجمها، إلا أنها ديناميكية ومتنوعة للغاية”. “إنها مزيج بين مدينة كبيرة وبلدة صغيرة”.
“إذن لديك كل مزايا العيش في مدينة كبيرة، لكن لا يزال لديك شعور بالبلدة الصغيرة حيث تعرف الناس والناس يعرفونك.”
المناخ المعتدل هنا أيضًا يشكل عامل جذب كبير. يقال إن متوسط سطوع الشمس في موناكو يبلغ 300 يوم في السنة، ويصنف متوسط العمر المتوقع بين أعلى المعدلات في العالم.
وأكد دو ماليه مورغان أنّ موناك “نعم، إنها جذابة من الناحية المالية، لكنني غالبًا ما اعتقدت أنّ موناكو لم تأخذ حقها من منظور أسلوب الحياة فيها”، لافتًا أيضًا “لجهة الصحة العامة والأسرة والرفاهية.”
لقد لاحظ زيادة عدد العائلات التي تنتقل إلى موناكو، بينما ارتفع الطلب على أماكن الدراسة بشكل كبير على مر السنين.
هذا الإحساس بالعائلة مهم للغاية بالنسبة إلى دي غاسباري، التي أصدرت أخيرًا كتاب صور بعنوان “أمهات موناكو الدولية”، الذي يعرض أمهات الحياة الواقعية في موناكو وأطفالهن، بهدف الاحتفال بتنوع العائلات التي تعيش هناك.
ورغم أنها تعتبر موناكو “الوطن” ولا تندم على تربية أطفالها هنا، إلا أن دي غاسباري تعترف بأنها تتساءل أحيانًا عما إذا كان نموها في الإمارة يمكن أن يؤدي إلى منح أطفالها رؤية غير دقيقة إلى حد ما عن العالم.
وبينما استقرت دي جيوفاني في موناكو الآن، فإنها تعترف أحيانًا بأنها تفتقد لـ”ديناميكية مدينة كبيرة”، وتحاول أن تقضي أسبوعًا في الحد الأدنى، في وجهة مختلفة كل ثلاثة أو أربعة أشهر.
وأكدت دي غاسباري أن الجمال الحقيقي لموناكو يكمن في الحرية والمرونة التي توفرها لأولئك الذين يعيشون فيها.