بعد نحو 10 سنوات من القطيعة والخصومة والمواجهة، قررت الإمارات إعادة علاقاتها الدبلوماسية كاملة مع طهران وفتح صفحة جديدة من المصالحة والمصارحة والحوار مع الجار الإيراني. مدّت الإمارات يد الحوار إلى إيران التي تعيش ظروف مالية ومعيشية صعبة واحتجاجات وعقوبات مستمرة، ودعتها للإنضمام إلى أجواء التصالح الإقليمي لتخفيف التوترات في المنطقة وتصفير المشاكل والتأسيس لمرحلة جديدة من الانفتاح وحسن الجوار والابتعاد عن لغة التهديد والوعيد التي تمارسها طهران منذ سنة 1979.
لكن، رغم التجاوب الإيجابي الذي يدعو للتفاؤل الحذر بعد سنوات من الحرب الباردة بين شطري الخليج، فإن أبوظبي وبقية العواصم الخليجية ليست من السذاجة بحيث تهون وتستهين بتهديد الجار الإيراني وتقلل من خطره على أمن الخليج.
فالإمارات بحكم الجيرة التاريخية والجغرافية، والتفاعل الاجتماعي الكثيف والتبادل التجاري المكثف، تدرك أكثر من غيرها، أنه رغم اتساع زخم التقارب الخليجي الإيراني في الآونة الأخيرة، تظل إيران أكبر وأخطر تهديد لأمن الخليج واستقرار المنطقة عمومًا. لا يمكن تحت أي ظرف التهوين من هذا الخطر والاعتقاد أن النظام المتشدد في إيران أصبح فجأة نظامًا مسالمًا معتدلًا تجاوز جذوره الأصولية وثوابته المذهبية ورغباته الإمبراطورية التوسعية. إيران لا تتغير بين ليلة وضحاها، ولن تكون أقل عقائدية وعدائية في سلوكها الخارجي خاصة تجاه جوارها الجغرافي. لا يوجد أي مؤشر مقنع على أن النظام الإيراني سيتوقف عن تصدير نموذج حرسه الثوري، وينهي دعم مليشياته المسلحة في المستقبل القريب. من الصعب الرهان على أن هذا النظام المؤدلج قد أصبح فجأة أقل عدوانية.
خطر إيران على أمن واستقرار المنطقة ثابت، بل ازداد خطورة على أكثر من مستوى في السنوات العشر الأخيرة. فإيران تتحول سريعًا إلى دولة نووية مصممة على تطوير برنامجها النووي غير السلمي كمًا ونوعًا بعد أن بلغ في تخصيب اليورانيوم 84% كما جاء في تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية، لتزج دول المنطقة في متاهات سباق تسلح نووي لا يمكن التكهن بنتائجه.
كذلك، إيران هي المسؤولة عن زج دول المنطقة في سباق تسلح صاروخي. إنها تملك حاليًا ترسانة صاروخية هي الأكبر والاكثر تنوعًا تم استخدامها للاعتداء على منشآت نفطية وسفن تجارية وأهداف مدنية خليجية لأول مرة في تاريخ علاقتها المضطربة مع دول الخليج.
ثم هناك ترسانة إيران من الطائرات المسيرة (الدرون) التي بلغت بدورها درجات عالية من الدقة والتنوع. فهي إلى جانب أمريكا والصين وإسرائيل من أكبر مصنعي الطائرات بدون طيار في العالم. وتعتبر المسيرة “كمان 22” القتالية الإيرانية أول طائرة بدون طيار في العالم يصل مداها إلى 3000 كيلومتر. المسيرة الإيرانية “شاهد” بأنواعها المختلفة، خاصة مسيرة “شاهد 136″، حصلت مؤخرًا على اهتمام عالمي واسع بعد استخدامها في الحرب الأوكرانية.
أسلحة إيران التقليدية وغير التقليدية تضاعف من خطورة إيران على أمن الخليج ويصعب التهوين من تبعاتها والتقليل من خطورتها. لكن تهديد الجار الإيراني لأمن الخليج لا يقتصر على ترسانته النووية والصاروخية والدرونية الضخمة، فقد برز في الأفق طوق الهلال الإيراني الشيعي الذي يهدد أمن دول الخليج من الشرق الإيراني والشمال العراقي والجنوب اليمني. كانت إيران عبر تاريخها الممتد لأكثر من 3000 سنة تمثل تهديدا على دول الخليج شرقا، لكنها اليوم تشكل خطرا على دول الخليج من الشرق والشمال والجنوب مع الانتشار السريع لمليشيات الحشد الشعبي الإيراني في العراق وبروز الخطر الإيراني من الجنوب عبر تسليح جماعة الحوثي في اليمن.
خطر إيران على أمن الخليج ثابت ومقلق وهو اليوم أكثر اتساعًا جغرافيًا وأكثر عمقًا عسكريًا وسياسيًا، وسيزداد مستقبلًا إن صحت التقارير أنها ستحصل على 50 مقاتلة من نوع “سوخوي 35” الروسية التي تنتمي لمقاتلات الجيل الخامس، ونظام صواريخ S400 أرض جو الذي يعتبر أحدث نظام دفاعي ضد الطائرات والمسيرات وصواريخ كروز وذلك مقابل إرسال إيران لنحو 6000 من المسيرات المصنعة إيرانيًا إلى روسيا. هذا النظام الصاروخي بالإضافة إلى مقاتلات “سوخوي 35” سيعطي إيران تفوقًا هجوميًا ودفاعيًا نوعيًا يزيد من خطورتها على أمن واستقرار الخليج.
لذلك، رغم الانفتاح ومد يد الحوار وإعادة بناء الجسور، وعودة العلاقات الدبلوماسية مع الجار الإيراني، فإنه لا يمكن تجاهل خطر الجار الإيراني، ولا يمكن التصرف كأن المشاكل معها انتهت. فإيران تحتل جزر الإمارات، طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبوموسى منذ عقود، ولا تنوي حل هذه القضية بالطرق الدبلوماسية والقانونية.
كما تستمر إيران في النظر إلى عرب الخليج باستعلاء مقيت لا تتنازل عنه. ومن المستبعد جدًا أن يوقف النظام الإيراني دعم مليشيات إرهابية وأحزاب طائفية في أكثر من دولة عربية، ولا يوجد ما يضمن تراجعه عن هذا التسليح والتمويل والتدريب رغم الحوار معه. بل من الصعب الثقة في جار إيراني مندفع بنزعة امبراطورية توسعية، ومصمم على تسييس خلاف سني شيعي عمره أكثر من 1400 سنة وتوظيف هذا الخلاف العقائدي سياسيًا.
كل ذلك يجعل الجار الإيراني الصعب أكثر صعوبة على المدى القريب والبعيد. لكن الإمارات التي تدرك عن قرب الخطر الإيراني تدرك أيضا أن إيران بحاجة لها لتجاوز مأزقها المالي الصعب. أكثر من ذلك تدرك الإمارات عواقب استفزاز إيران في ظل هذه الظروف الصعبة. الحكمة السياسية تتطلب التصالح معها من موقع القوة والثقة. فالحوار مع الخصوم والأعداء بنفس أهمية الحوار مع الأصدقاء والشركاء. الانفتاح الدبلوماسي الراهن مجرد اختبار لنوايا الجار الإيراني، وضرورة من ضرورات مرحلة تخفيف التوتر في منطقة شرق أوسطية بأمس الحاجة للاستقرار بعد عقد من الخصومة والقطيعة والمواجهة.