ها هو عام 2020 يتأهب للرحيل ململما أوراقه بعد أن عصف بالبشرية بشكل لم نشهد له مثيلا في حياتنا المعاصرة. إذ لم تكتف الجائحة بضرب اقتصادات العالم في مقتل ووقف تنقل البضائع والأموال والبشر متسببة بانهيار الأنظمة الصحية ووفاة الملايين، بل قامت بتمزيق النسيج الاجتماعي حينما فرضت على البشر عزلة تامة وأطلقت مصطلح التباعد الإجتماعي كسلوك واجب فى حياتنا الاجتماعية في محاولة يائسة لوقف انتشار الجائحة.
وإذا قمنا بالتركيز على الجانب الاقتصادي، فإن معظم المراقبين والمحللين كانوا ولا زالوا متشائمين إلى حد كبير في إمكانية أن يتعافى الاقتصاد على المستوى العالمي في وقت قريب. فلا نجد أحدا تحدث عن إمكانية أن يتعافى الاقتصاد وفقا للسيناريو V. فأغلب المحللين يتوقعون أن يأخذ الاقتصاد وقتا طويلا حتى يصل إلى مرحلة التعافي من آثار الجارحة ويتوقعون سيناريو U أوالسيناريو W للتعافي.
الا إننا بحاجة للقيام بمراجعة للوضع وفق المعطيات الحالية حتى نتمكن من الوصول الى تقييم صحيح لمدى إمكانية التعافي الإقتصادي وفي أية فترة زمنية. لن أحاول التعرض للإقتصاد العالمي لأن هناك معطيات محددة تؤثر فيه وتتحكم به وتختلف هذه المعطيات من دولة إلى أخرى. وسأكتفي بتقديم تصوراتى لآفاق التعافي الاقتصادي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وكأي أقتصاد آخر فقد تأثر الإقتصاد فى الإمارات بالجائحة وآثارها سواء تمثل ذلك في انخفاض أسعار البترول أو في وقف حركة التبادل السلعي مع العالم خاصة في فترة برنامج التعقيم الوطني التي أدت إلى شلل كامل في الدورة الاقتصادية. ولقد تأثرت إمارة دبي أكثر من غيرها لاعتمادها على قطاع السياحة وهو القطاع الذي كان الأكثر تضررا على مستوى العالم. إلا أن حكومة دولة الإمارات سواء الحكومة الاتحادية أو الحكومات المحلية بادرت بالتحرك فور نشوء الجائحة لمساعدة القطاع الخاص في التخفيف من شدة آثارها من خلال إطلاق الحكومات لعدة برامج تحفيز وتخفيض وتأجيل للعديد من الرسوم الحكومية وخاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة. ولا ننسى في هذا المجال برنامج التيسير الكمي الذي أطلقه مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي والبالغ قيمته 100 مليار درهم للمصارف المحلية لكي تقوم من خلاله بتقديم الإعفاءات والتأجيلات المصرفية إلى عملائها.
إلا أن دولة الإمارات لم تتوقف عند هذا الحد. إذ أنها فاجأت المراقبين بإطلاق سلسلة تعديلات تشريعية تناولت مواضيع كان يعتقد أنها من الصعوبة بل ومن الاستحالة التعامل معها على الأقل في المدى المنظور. فعلى سبيل المثال قامت الإمارات بإجراء تعديل تشريعي يرفع التجريم الجنائي عن إصدار الشيكات بدون رصيد وهو الأمر الذي كان يصعب المساس به خلال السنوات السابقة. كما قامت بإجراء تعديلات تشريعية فى قوانين الإقامة وحتى منح الجنسية فى سبيل استقطاب شرائح أكبر من المستثمرين للإقامة والاستثمار فيها. وتزامنا مع ذلك، أجرت الإمارات تعديلات تشريعية تستهدف التخفيف من القيود القانونية المفروضة على مساحة الحريات الشخصية. بل والأكثر من ذلك، وفي خطوة مفاجئة، قامت الإمارات بإجراء تعديل تشريعي في القوانين المتعلقة بالشركات وفتحت الباب واسعا أمام السماح للأجانب بتملك نسب تزيد عن الـ49% التي كانت مفروضة سابقا وهي خطوة لم تكن متوقعة عند أكثر المراقبين تفاؤلا باعتبار ان هذا الموضوع من المواضيع الحساسة، خاصة وأن مثل هذا التعديل يثير التساؤل حول جدوى بقاء هذا العدد الكبير من المناطق الحرة في الإمارات وقدرتها على التأقلم مع الوضع الجديد عن طريق إعادة تأهيل نفسها وتقديم محفزات أخرى حتى تتمكن من الاستمرار في استقطاب الشركات الأجنبية. كما قامت الإمارات بتعديل قانون الإفلاس لجعله أكثر مرونة فى التعامل مع الظروف الاقتصادية الاستثنائية كجائحة كورونا. وفي تقديري الشخصي، فإن هذه التعديلات التشريعية هي ترجمة للفلسفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تبنتها دولة الإمارات في العقود الاخيرة. وحدوث مثل هذه التعديلات التشريعية كانت مسألة وقت ليس أكثر، إلا أن جائحة كورونا أدت إلى التعجيل بإطلاق هذه السلسلة من التعديلات التشريعية. ولا أظن أن قطار التطور التشريعي فى الإمارات سيتوقف قريبا أو عند نقطة محددة وقد يطال أمورًا تعد اليوم من المحرمات مثل قانون الوكالات التجارية.
وعلى الصعيد الاقتصادي فقد أثبتت الشركات الحكومية قدرة متميزة فى التعامل مع جائحة كورونا، فمثلا نجحت شركة أدنوك فى توفير تمويلات غير تقليدية من خلال شراكات مع مؤسسات عالمية كما نجحت شركة مبادلة فى اقتناص عدة فرص استثمارية مستفيدة من إمكاناتها وجاذبية العروض المطروحة. كما أثبتت طيران الإمارات مرونة فائقة فى التأقلم مع المتغيرات من خلال تقديم نفسها كناقل لوجستي للقاح كورونا.
في نهاية المطاف، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل من شأن هذه الإجراءات أن تؤدي إلى تعافي الاقتصاد. قد يكون من المبكر رؤية أثر هذه الإجراءات على أرض الواقع. إلا أن هناك بعض البوادر التي لا تخطئها العين. فمثلا ارتفعت أسعار العقارات في مناطق معينة من إمارة دبي مثل جزيرة نخلة جميرا إلى ما يزيد عن 40% من قيمتها قبل عدة أشهر. كما أن الفنادق الشاطئية تشهد نسب إشغال شبه كاملة وبأسعار تعد نسبيا عالية. فضلا عن ذلك، فإن أسعار النفط شهدت تحسنا ملحوظا في الأيام الماضية. وقد توقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الناتج الإسمى فى الإمارات بنسبة3% والإجمالي الحقيقي بنسبة1.3% مرجحا أن يبلغ رصيد الحساب الجاري 7.5% مقارنة بـ 3.6% لهذا العام. هذه المؤشرات وغيرها تدل على أننا مقبلون على تعافي اقتصادي أسرع وأفضل مما كان يظنه المراقبون، وأنه على مسؤولي الشركات أن يضعوا تصورات للتعامل مع سيناريو تعافي اقتصادي سريع وقوي.