يستعد مسبار الأمل الإماراتي للقيام برحلة علمية استثنائية لاستكشاف كوكب المريخ المثير للخيال الإنساني والذي يعتقد بعض علماء الفلك أنه كان مأهولاً بالحياة قبل نحو 40 مليون سنة. رحلة المريخ ستكون لحظة مميزة في تاريخ الإمارات والعرب، لكنها تطرح عدة أسئلة: ما الفائدة من هذه الرحلة؟ ولماذا تقوم الإمارات بمهمة استكشافية عويصة في الفضاء الخارجي؟ ولماذا لم تقم أي دولة عربية أخرى بهذه الرحلة قبل الإمارات؟
تؤكد الإمارات في خطابها الرسمي أن مسبار الأمل 2020 هو مسبار العرب الى المريخ، وأنها تقوم بهذه الرحلة نيابة عن 22 دولة عربية معظمها منكفئ حاليا على ذاته وغارق في همومه، وآخر هم هذه الدول التفكير في رحلة مكلفة إلى الفضاء. الإمارات تعيش هموم أمتها لكنها أيضاً تعيش لحظة مختلفة وسجلاً تنموياً مختلفاً، وتفكيراً مختلفاً وربما طموحاً مختلفاً، وحتما تود أن تقود الجيل العربي الجديد نحو مستقبل مختلف، وتحقق للعرب انجازا فلكيا ومعرفيا يضاهي أفضل ما لدى أكثر الأمم تقدما علميا وتقنيا ومعرفيا. الإمارات أخذت على عاتقها مسؤوليات كثيرة من بينها أن تحقق لنفسها وللعرب أجمعين ما لم تتمكن أي دولة عربية أخرى من تحقيقه خلال الـ500 سنة الأخيرة.
برزت الإمارات كدولة اتحادية مستقلة قبل 50 سنة فقط وتمكنت خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبياً أن تصبح الدولة القدوة في المنطقة القادرة على تحقيق المستحيل بما في ذلك القيام برحلة ليس إلى القمر على بعد 500 ألف كيلومتر بل إلى كوكب المريخ على بعد 500 مليون كيلومتر، في رحلة تستغرق 7 أشهر في الفضاء الخارجي.
رحلة مسبار الأمل ليست للاستهلاك والاستعراض الإعلامي بل هي رحلة في غاية التعقيد بأهداف علمية طموحة من بينها دراسة الغلاف الجوي العلوي والسفلي للمريخ، ودراسة التغيرات المناخية والحرارية على هذا الكوكب وجمع بيانات غير مسبوقة عن غازاته ومركباته الكيميائية، وبناء قاعدة علمية موسوعية تفيد علماء الفضاء والبشرية جمعاء للإجابة على سؤال حيّر العلماء، هل توجد حياة على سطح المريخ؟ وهل الكوكب الاحمر صالح للحياة البشرية؟
لذلك تم تجهيز مسبار الأمل الإماراتي بنظام رقمي متطور جداً ودقيق قادر على مسح كل شبر من سطح كوكب المريخ عبر كاميرات تعمل بدقة عالية وغير مسبوقة. لقد استغرق تجهيز هذا المسبار أكثر من خمس سنوات وتم بإشراف فريق مكون من 250 باحث من بينهم 200 مهندس وفني وعالم وباحث ومتخصص من أبناء الامارات 34% من النساء. فريق العمل هم من جيل إمارات القرن 21 التي ستدخل التاريخ كخامس دولة في العالم، بعد كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي وروسيا والهند، ترسل مسباراً إلى كوكب المريخ.
قد تكون لحظة صعود مسبار الأمل الى كوكب المريخ لحظة الهام لكل العرب، لكنها حتما اللحظة الأكثر تميزاً في تاريخ الإمارات، وتوزاي في قيمتها التاريخية إرسال الإتحاد السوفيتي أول مركبة سبوتنيك إلى الفضاء الخارجي قبل 62 سنة، وهبوط أول إنسان على سطح القمر سنة 1969.
فكيف حققت الامارات ما عجزت عن تحقيقه بقية الدول العربية؟ ما الذي تملكه الامارات ولا تملكه الدول العربية الأخرى؟ الأمر لا يتعلق بامتلاكها للنفط، فهناك 12 دولة عربية تملك النفط وباحتياط أكبر بكثير من الامارات. ولا علاقة لطموح الامارات كونها دولة غنية، فهناك دول عربية أغنى منها من حيث دخل الفرد وحجم الاقتصاد والموارد الطبيعية. ولا يبدو أن رحلة الإمارات الى المريخ مرتبطة بوجود وفرة في الموارد البشرية العلمية والجامعية، فدول عربية عديدة سبقت الإمارات في وفرة المهندسين والعلماء والفنيين والكفاءات العلمية والجامعية والهندسية.
حقيقة الأمر أن رحلة كوكب المريخ هي تتويج لرحلة إماراتية فريدة ممتدة لخمس عقود نقلت المواطن والمجتمع والاقتصاد الإماراتي من حال إلى حال. ففي العقد الأول 1971-1980، وضعت الإمارات بتأنٍ حجر الأساس لكيان اتحادي نموذجي استمر لخمس عقود. وفي العقد الثاني 1980-1990 تعاملت الامارات بحنكة وروية مع تداعيات ثورة إيرانية عاصفة، وحرب عراقية إيرانية مدمرة، وانهيار مفاجئ لأسعار النفط وصلت إلى ما دون الـ10 دولارات، وخرجت بعد كل ذلك بأقوى مما كانت عليه. وفي العقد الثالث من تاريخها المعاصر 1990-2000، برز نموذج الإمارات التنموي بكل ثقله ليصبح النموذج التنموي الجاذب للشباب والمواهب العربية. وخلال العقد الرابع 2000-2010 بلغت الإمارات العالمية وأصبحت مركزاً مالياً ولوجستياً وسياحياً على صعيد إقليمي وعالمي تنافس أكبر المراكز في العالم. وفي عقدها الخامس 2010-2020 تحولت الإمارات كقوة اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية يحسب لها ألف حساب. والآن تستعد الإمارات لعقدها السادس 2020-2030، برؤية علمية وباستثمارات ضخمة في بنيتها الرقمية لبناء اقتصاد المعرفة ومواكبة الثورة الصناعية الرابعة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
مسبار الأمل العربي يجسد هذه التراكمات التنموية والمعرفية التي تشير إلى أن إمارات القرن الواحد والعشرين مختلفة جوهريا عن إمارات القرن العشرين. فالإمارات اليوم ليست دولة صغيرة، كما يشار لها عادة، بل هي قوة من القوى الوسطى الصاعدة في العالم. واقتصاد الإمارات ليس باقتصاد نفطي ريعي متواضع، بل هو ثاني أكبر اقتصاد عربي وضمن أكبر 30 اقتصاد عالمي، ومن أكثر اقتصاديات المنطقة تنوعاً وحيوية واندماجا في الاقتصاد العالمي. كذلك مجتمع الإمارات الجديد ليس مجتمعاً تقليدياً وأحادياً، بل هو مجتمع مدني وعصري وجامعي وتعددي ومعولم وحديث يضاهي أكثر المجتمعات عصرنة وحداثة وعولمة.
تحولات عميقة جعلت المستحيل ممكناً في الإمارات، وخلقت حاضنة متطورة مكنتها من القيام بأدوار قيادية بما في ذلك قيادة الأمة نحو كوكب المريخ وتحقيق ما عجزت بقية الدول العربية عن تحقيقه.